إظهاراً للنصف، وبعد عن التعصب لنفسه، فقرر أولاً في صدر الآية، بأنه رسول إلى الناس، وأثبت ذلك في أنفسهم، ثم أخرج كلامه من الخطاب إلى معرض الغيبة لغرضين كبيرين قد ذكرتهما.
الضرب الثاني: الرجوع من الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، يفعل ذلك تعظيماً لحال من أجري عليه فعل الأمر. فمما جاء منه قوله تعالى (يا هود ما جئتنا ببينه وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين، إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون) ولم يقل (وأشهدكم) ليكون موازناً له وبمعناه، لأن إشهاد الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت في معنى يثبت التوحيد، ويشد معاقده. وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم، ودلالة على قلة المبالاة بهم، ولذلك عدل به عن لفظ الأول، لاختلاف ما بينهما وجيء به على لفظ الأمر؛ كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه: اشهد علي إني أحبك. تهكماً به واستهانة بحاله. وأمثال هذا كثيرة فاعرفها.
الضرب الثالث: الرجوع من خطاب التثنية إلى خطاب الجمع، ومن خطاب الجمع إلى خطاب الواحد.
فمن ذلك قوله تعالى (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً. واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة، وبشر المؤمنين). ألا ترى إلى هذا المعنى والتوسع في الكلام فإنه نوع الخطاب، فثنى ثم جمع ثم وحد، فخاطب موسى وهارون - عليهما السلام - بالنبوة والاختيار، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء. ثم ساق الخطاب لهما ولقومهما باتخاذ المساجد،