اعلم أن المعاني على ضربين: أحدهما يبتدعه صاحب الصناعة، من غير أن يكون له فيه إمام يقتدى به، أو رسوم قائمة، في أمثلة يعمل عليها. وهذا الضرب مما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة، ويتنبه له عند الأمور الظارئة؛ والآخر ما يحتذيه على مثال تقدم، ورسم سبق. وينبغي للمؤلف أن يطلب الإصابة في كلا الأمرين، ويتوخى فيها الصورة المقبولة، والعبارة المستحسنة. ولا يتكل فيما يبتكره من المعاني على فضيلة السبق، ولا يغتر بمزية الإبداع، فيتسامح في تهجين صورته. فإنه إذا فعل ذلك ذهب حسنه، وانطمس نوره. ويكون فيه إلى الذم أقرب منه إلى الحمد. وينبغي أن يستيقن المؤلف ويتحقق، أن المعاني أشرف من الألفاظ؛ والدليل على ذلك ما أذكره: وهو أنا لو خلعنا من هذه الألفاظ دلالتها على المعاني، لما كان شيء منها أحق بالتقديم من شيء، بل كانت بمنزلة أصداء الأجسام والأصوات الناشئة عنها؛ ويزيد ما ذكرناه وضوحاً، أن هذه الصناعة من النظم والنثر، التي يتواصفها البلغاء بينهم، وتتفاضل بها مراتب البلاغة، إنما هي شيء يستعان عليه بتدقيق الفكرة، وكثرة الروية والتدبر. ومن المعلوم أن الذي يستخرج بالفكرة، وينعم فيه النظر، إنما هو المعنى دون اللفظ؛ لأن اللفظ يكون معروفاً عند أرباب صناعة التأليف دائراً فيما بينهم، والمعنى قد يبتدع؛ فيذكر