وهو التوصل إلى وصول الغرض من المخاطب، والملاطفة له بلوغ المعنى المقصود، من حيث لا يشعر به، وفي ذلك من الغرائب، والدقائق ما يوثق السامع، ويطربه؛ لأن مبنى صناعة التأليف عليه، ومنشأها منه، فما جاء من هذا الباب، قوله تعالى:(واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً، إذ قال لأبيه: يا أبت لم تعبد مالا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئاً، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن، فتكون للشيطان ولياً). هذا كلام، يهز أعطاف السامعين، ويبهج نفوس المتأملين، فعليك، أيها المترشح لهذه الصناعة، بإمعان النظر في مطاويه، وترداد الفكر في أثنائه، واتخاذه قدوة ونهجاً تقتفيه، ألا ترى حين أراد إبراهيم، أن ينصح أباه، ويعظه مما كان متورطاً فيه، من الخطأ العظيم، الذي عصى به أمر العقل، كيف رتب الكلام معه، في أحسن اتساق وانتظام، مع استعمال المجاملة، واللطف، واللين، والأدب الجميل، والخلق الحسن؟! مستنصحاً في ذلك بنصيحة ربه؛ وذاك أنه طلب منه أولاً العلة في خطيئته طلب منبه على تماديه، موقظ (له) لإفراطه (في غفلته) وتناهيه، لأن المعبود لو كان حباً، متميزاً، سميعاً بصيراً، مقتدراً على الثواب، والعقاب، إلا أنه بعض الخلق، لاستسخف عقل من أهله للعبادة، ووصفه
بالربوبية، ولو كان أشرف الخلق، كالملائكة، والنبيين فكيف لمن جعل المعبود جماداً، لا يسمع، ولا يبصر؟! ثم ثنى ذلك بدعوته إلى الحق، مترفقاً به، متطلعاً، فلم يسم أباه بالجهل المطلق، ولا نعته بالعلم الفائق، ولكنه قال: (أن معي