للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واعلم أن الناثر في ذلك أكثر ملامة من الناظم، وأعظم عيبا، وذلك أن الناظم يحتاج إلى إقامة ميزان الشعر، ويكون مجال الكلام عليه ضيقاً في بعض الاوقات، فليجثه طلب الوزن إلى إلقاء نفسه في مثل هذه المقابح، وأما الناثر فإنه لا يحتاج إلى إقامة الميزان الشعري لكلامه، فلأجل ذلك يتسع عليه مجال التأليف، وينطلق عنانه فيه كيف يشاء؛ ولهذا إذا اعتراض في كلامه اعتراض يفسده توجه عليه الانكار، وحق عليه العتب والملام أكثر مما يتوجه على الناظم.

النوع الرابع في الإيجاز

وهو حذف زيادات الكلام

هذا نوع من التأليف شريف لا يكاد يلجه إلا فرسان البلاغة ومن ضرب فيها بالقدح المعلى، وذلك لعلو منزلته، وبعد مناله، والدليل على ذلك إنه أقل أنواع التأليف استعمالاً بين أرباب هذه الصناعة.

واعلم أن العرب اعتنوا بهذا الضرب من الكلام اعتناءً زائداً ومما يدلنا على إيثار القوم قوة إيجازهم وحذف فواصل كلامهم ما جاءوا به من الأسماء المستفهم بها والأسماء المشروط بها، فانهم استغنوا بالحرف الواحد عن الكلام الكثير، المتناهي في الطول، فمن ذلك قولهم (كم مالك) ألا ترى إنه قد أغناك هذا عن قولك (أعسرة مالك أم عشرون أم ثلاثون أم مائة أم ألف؟) فلو ذهبت تستوعب الأعداد لم تبلغ إلى ذلك أبدا، لأنه غير متناه، فلما قلت (كم) أغنتك هذه اللفظة الواحدة عن تلك الألفاظ التي لا يحاط بها، وكذلك قولك (أين منزلك) فإن لفظة (أين) تغنيك عن ذكر الأماكن كلها وكذلك (من عندك) فقد أغنتك هذه اللفظة عن ذكر الناس كلهم. وأما الشرط ففي قولهم (من يقم أقم معه) كناية عن

<<  <   >  >>