للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلما أريد إثبات ما هو بخلاف المتعارف من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة، ونفيه عن الأبصار. احتاج هذا الأمر إلى زيادة تصوير وتعريف، ليتقرر أن مكان العمى إنما هو القلوب لا الأبصار. وهذا نوع من أنواع علم البيان، وافر اللطائف، كثير المحاسن. فينبغي لمؤلف الكلام العناية به والمراعاة له، فاعرفه.

النوع السادس من الباب الأول من الفن الثاني

في توكيد الضمير المتصل بالمنفصل

وإنما يفعل ذلك لضرب من المبالغة

فمما جاء منه قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن تكون نحن الملقين). فقولهم (يا موسى إما أن تلقي) تخيير منهم له، وحسن أدب راعوه معه، كما يفعل أرباب الصناعات إذا تلاقوا في تقديم بعضهم على بعض كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال. وإنما قالوا (وأما أن نكون نحن الملقين) ولم يقولوا (وأما أن نلقي) كما قالوا (يا موسى، إما أن تلقي) لرغبتهم في أن يلقوا قبله وتشوقهم إلى التقدم عليه وذلك لما فيه من تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل.

ومما يجري على هذا المنهاج قوله عز وجل: (فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تحف إنك أنت الأعلى). فتوكيد الضمير هاهنا في قوله: (إنك أنت الأعلى) أنفى للخوف من قلب موسى، وأثبت في نفسه للغلبة والقهر، ولو قال: (لا تخف إنك الأعلى) أو (لا تخف فأنت الأعلى) لم يكن له من التقرير والإثبات لنفي الخوف من قلب موسى، ما لقوله: (إنك أنت الأعلى).

والدليل على ذلك، أن في هذه الثلاث كلمات وهو قوله تعالى: (إنك أنت الأعلى). ست فوائد: الأولى: (أن) المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها، كقولك: (زيد

<<  <   >  >>