التخلص، وهو فصل الخطاب، ولنبين في ذلك ما يوقفك عليه، ويأخذ بمجامع قلبك فنقول: إن أريد فصل الخطاب، الفاصل في الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ فهو (فَعْل) بمعنى فاعل كالفَّوْم والزَّوْر، وقال بعضهم هو (أما بعد) لأن المتكلم يفتتح، إذا تكلم
في الأمر الذي له شأن؛ بذكر الله عز وجل (أما بعد) وهذا مذهب المحققين من علماء البيان. قالوا في الفصل الذي هو أحسن من الوصل هذا، وهي علامة وكيدة من الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره كقوله تعالى:(واذكر عبادنا إبراهيم واسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار، إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) إلى قوله: (مفتحة لهم الأبواب) ألا ترى ما ذكر قبل (هذا ذكرُ) في الأنبياء، وأراد أن يذكر على عقبه باباً آخر وهو ذكر الجنة وأهلها فقال (هذا ذكر) ثم قال (وإن للمتقين لحسن مآب). وبدل عليه لما أتم ذكر أهر الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار قال (وإن للطاغين لشر مآب) وذلك من فضل الخطاب الذي هو ألطف موقعاً من التخلص فاعرفه.
النوع الرابع عشر من الباب الأول
من الفن الثاني في مبادئ والافتتاحات
وهو نوع من صناعة التأليف جّمة فوائده، وذلك أن يجعل مطلع الكلام من الشعر والخطب والرسائل دالاً على المعنى المقصود بذلك الشعر أو تلك الخطبة أو تلك الرسائل. ومن أدب ذلك أن لا يذكر الشاعر في افتتاح القصيدة المديح بما يتطير به وقال بعض علماء البيان (أحسنوا معاشر الكتاب الابتداءات فإنهن دلائل البيان). وينبغي للشاعر أن يحترز في المدح مما يتطير به من وصف إفقار الديار، ودثور المنازل والأطلال، وتشتت الألاّف، وذم الزمان،