عليَّ نحتُ المعاني من معادنها ... وما عليَّ بأن لا تفهم البقر
وحيث انتهى بنا القول إلى هذا الوضع، فلنرجع إلى ما هو غرضنا ومهمتنا، من الكلام على الإيجاز وحده وأقسامه. ولنوضح ذلك إيضاحاً جلياً، فنقول: اعلم أن حد الإيجاز هو دلالة اللفظ على المعنى من أقرب طرقه، وهو ينقسم قسمين:
أحدهما الإيجاز بالحذف وهو ما يحذف منه المفرد والجملة، لدلالة فحوى الكلام على المحذوف، ولا يكون إلا فيما زاد معناه على لفظه. وأما القسم الآخر فهو ما لا يحذف منه شيء، بل يترك على حاله، وهو ضربان: أحدهما ما ساوى لفظه معناه، ويسمى التقدير، والآخر ما زاد معناه على لفظه، ويسمى القصر،
فأما القسم الأول، وهو الإيجاز بالحذف، وذلك باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون مبيناً إذا لم تبن، وهذه جملة تنكرها حتى تخبر، وتدفعها حتى تنظر، وهذا القسم يشتمل على أربعة عشر باباً:
الأول: الاكتفاء بالسبب عن المسبب، عن السبب، وهو ضرب من الكلام، تتكاثر محاسنه، وتتزايد لطائفه. أما الاكتفاء بالسبب عن المسبب فكقوله تعالى (وما كنت يجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر) كأنه قال (وما كنت شاهداً لموسى وما جرى له وعليه، ولكنا أوحيناه إليك) فذكر سبب الوحي على عادة اختصارات القرآن الكريم، لأن تقدير الكلام (ولكنا أنشأنا