للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذكر جميع الناس أيضاً، ولولا ذلك لاحتجت أن تقول (إن يقم زيد أو عمر أو جعفر أو نحو ذلك) ثم تقف حسيرا مبهورا، ولم تجد إلى غرضك سبيلا، وكذلك بقية أسماء العموم في غير الإيجاب نحو (أحد وديار وغيرهما) فإذا قلت (هل عندك أحد) أغناك ذلك عن أن تقول (هل عندك زيد أو عمر أو جعفر) فتطيل ثم تقصر إقصار الكليل المنقطع. وهذا وغيره أظهر أمرا، وأبدى صفحة وعنوانا، فجميع ما ذكرناه هاهنا شاهد بانصباب همم القوم إلى اختصار كلامهم وإيجاز لغتهم.

واعلم أن جماعة من أرباب هذه الصناعة أجمعوا على أن الكلام ينقسم قسمين:

فمنه ما يحسن فيه التطويل كالخطب والتقليدات، السلطانية، وكتب الفتوح التي تقرأ في ملأ من عوام الناس؛ فإن الكلام إذا طال في مثل ذلك أثر عندهم وأفهمهم، ولو اقتصر فيه على الإيجاز والإشارة لم يقع لأكثرهم حتى يقال في ذكر الحرب (تطاعن الفريقان وتقاتلا، واشتد المصاع وحمي القراع). وما جرى هذا المجرى، والمذهب الفصل في هذا الباب ما أذكره لك وهو أن فهم العامة من الناس ليس شرطاً معتبراً في اختياره، لأن ذلك لو كان شرطاً لوجب قياسه أن يستعمل في الكلام الألفاظ العامية المبتذلة عندهم، التي قد تداولوها بينهم حتى يكون ذلك أقرب إلى فهمهم وأسهل مأخذاً ومتناولها، لأن العلة بعينها في اختيار المبتذل في الكلام، لأنه لا خلاف في أن العامة إلى فهمه أقرب من فهم ما يقل ابتذالهم له، وتداولهم إياه. وهذا شيء مدفوع لا يجوز استعماله البتة. وإنما الذي يجب على مؤلف الكلام اعتماده هو أن يسلك المذهب القويم، ويجهد أن لا تزيد ألفاظه على معانيه مع الإيضاح لها والإبانة عنها، فإنه إذا فعل ذلك خرج من عهدة الملامة، وليس عليه أن يفهم العامة كلامه فإن نور الشمس إذا لم يره الأعمى (لا) يكون ذلك نقصاً في استنارته، وإنما النقص في بصر الأعمى حيث لا يستطيع النظر إليه قال الشاعر:

<<  <   >  >>