اعلم أن هذا النوع لا يتعلق بتكرير الألفاظ ولا تكرير المعاني مما سبق ذكره في باب التكرير، لأن تكرار الحروف هو أن يأتي حرف واحد أو حرفان في كل لفظة من ألفاظ الكلام أو في أكثرها، فيثقل على اللسان النطق بها، فمن ذلك ما أشده الجاحظ:
وقبر حربٍ بمكان قفرٍ ... وليس قُربَ قبر حربٍ قبر
ألا ترى إلى هذه الراءات، والقافات التي في هذا البيت من الشعر؟ فإنها في تتابعها كالسلسلة، ولا خفاء بما على الناطق بها من الكلفة، وليس الكلام العاري من ذلك بمعوز ولا بعزيز، ولا هو بالذي لا يستطيعه إلا الشاعر المبرز أو الكاتب المفلق بل هو مما يصعب النطق به. ولذلك كان الكلام الناس في محاوراتهم،
ومكاتباتهم، خالياً من هذا القبيل، وذلك لأنه لا يحصل إلا بالتكلف والقصد للإتيان به، فأما إذا أرسل الإنسان نفسه على سجيتها، وخلى بينها وبين طبعها فإنه لا يعرض له ذلك. فليت شعري أي أمر يضطر مؤلف الكلام حتى يأتي به مستكرهاً ثقيلاً على اللسان، ويترك ما هو أسهل عليه.
ألم تعلم أن العرب الذين هم الأصل في هذه اللغة قد عدلوا عن تكرار الحروف في كثير من كلامهم؟ وذاك أنه إذا تكررت الحروف عندهم أدغموها استحساناً، فقالوا: في جعل لك. (جعل لك) وفي تضربونني (تضربوني). وكذلك (استعد فلان للأمر) إذا تأهب له والأصل فيه (استعدد)، (واستتب الأمر) إذا تهيأ وكمل (وأصله استتبب) وأشباه هذا كثيرة في كلام العرب، حتى إنهم لشدة كراهتهم لتكرار الحروف أبدلوا أحد الحرفين، لما تكرر، حرفاً آخر غيره فقالوا: أمليت الكتاب) والأصل من ذلك (أمللت) فأبدلوا