المؤلف معنى لم يسبق إليه، وذلك إنما يكون تحادثاً عن الفكرة الصحيحة، والطبع
السليم، فإن الذي تخرج فيه صنعتك، وتقع فيه صياغتك هو المعنى. ولهذا كان جماعة المؤلفين يشتركون في معرفة الجيد من الألفاظ، وإنما التفاوت يقع بينهم في المعاني. لأن الألفاظ الجيدة يستعملها جميعهم، ولا يكاد أحدهم يفوت الآخر فيها. وأما المعاني فإنه قد يبتكر المؤلف المعنى من نفسه، وينتحله من ذاته؛ وذلك كثير لا يحصى. فصح من هذا الوجه، أن المعاني أشرف من الألفاظ وأنبل.
واعلم أن شرف المعنى وعلوه، وسقوطه واستفاله، من نتائج علو الهمة وسقوطها. وقد حكي أن أشرف كلام قالته العرب:(القتل أنفى للقتل). ومن المعلوم أن هذا الكلام ليس فيه من الألفاظ البديعة الرائعة ما يرفعه إلى منزلة يكون بها أشرف كلام قالته العرب؛ حتى إنهم جعلوه في مقابلة قوله تعالى:(ولكم في القصاص حياة). لا بل في لفظه من الثقل، بسبب تكراره مالا خفاء به. ومع هذا فأنا نجد من كلامهم ما ألفاظه تطرب الأسماع، وتأخذ بمجامع القلوب، وذلك أكثر من أن يحصى، وهو لا يكون بمنزلة قولهم:(القتل أنفى للقتل) فصح حينئذ أن فخامة هذا الكلام، وعلو منزلته، إنما هي لأمر يرجع إلى جلالة المعنى المندرج تحته، وشرف قدره.
وقد رأيت جماعة من متخلفي هذه الصناعة، يجعلون همهم مقصورة على الألفاظ التي لا حاصل وراءها، ولا كبير معنى تحتها. وإذا قال أحدهم سجعتين أو ثلاثاً، يعتقد إنه قد أنى بأمر عظيم، فإذا أنكرت هذه الحال عليهم، يقولون: لنا أسوة بالعرب، الذين هم أرباب الفصاحة وفرسان البلاغة، فإنهم اعتنوا بالألفاظ، ولم يعتنوا بالمعاني اعتناءهم بها. ألا ترى إلى جهل هؤلاء القوم، فانهم لم يكفهم جهلهم فيما ارتكبوه من ذلك، حتى إنهم ادعوا أن العرب مثلهم، فصارت جهالتهم جهالتين.