ولنذكر هاهنا ما إذا تأمله الناظر في كتابنا هذا عرف ما يوثقه، ويذهب به (في)
الاستحسان كل مذهب فنقول: إن العرب لما كانت تعتني بألفاظها، فتصلحها، وتهذبها، وتراعيها، وتلاحظ أحكامها بالنظم تارة بالنثر أخرى، فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها وأفخم قدراً في نفوسها. فأول ذلك عنايتها بألفاظها لأنها (لما) كانت عنوان حاجتها، وطريقاً إلى إظهار أغراضها أصلحوها ورتبوها، وبالغوا في تحبيرها وتحسينها، ليكون ذلك أوقع لها في النفس، وأذهب بها في الدلالة على القصد. ألا ترى أن الكلام إذا كان مسجوعاً (لذ لسامعه فحفظه، وإذا لم يكن مسجوعاً) لم يأنس به أنسه (في) حالة السجع. فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظهم وحسنوها، ورققوا حواشيها، ونمقوا أطرافها، وصقلوا غروبها، فلا تظن أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ فقط، بل هي خدمة منهم للمعاني، وتنويه بها. ونظير ذلك إصلاح الوعاء وإحكامه، وإنما المبغي بذلك الاحتياط للموعى، لئلا يتغير جوهره، فأنا قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما نجد من طلاوته. وبلادة لفظه تضع من رونقه لسوء العبارة عنه، فإن قيل: إنا نرى من ألفاظهم ما قد نمقوه. وزخرفوه وربجوه، ولسنا نرى مع ذلك تحته معنى شريفاً، فمما جاء منه قول بعضهم:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسَّح بالأركان من هو ماسح
ألا ترى إلى حسن هذا اللفظ، ومائه وصقاله، وتدبيج أجزائه!؟ ومعناه مع ذلك ليس مدانياً له مقارباً، فإنه إنما هو (لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين، وتحدثنا على ظهور الإبل. . .) ولهذا نظائر كثيرة، شريفة الألفاظ مشروفة المعاني. وفيما أشرنا إليه كفاية