ومن هذا الباب قوله تعالى (قل أني أمرتُ أنْ أعبد الله مخلصاً له الدين. . .) إلى قوله (فاتقون) ألا ترى إلى هذا التكرير في قوله (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) وقوله (قل الله أعبد مخلصاً له ديني) والمراد به غرضان مختلفان وذلك أن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله عزَّ وجل بإحداث العبادة له والإخلاص في دينه. والثاني إخبار بأنه يخص الله وحده دون غيره بالعبادة، مخلصاً له دينه، ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة في الثاني وأخره في الأول؛ لأن الكلام أولاً واقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانياً فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه (فاعبدوا ما شئتم من دونه).
ومما أورد على نحو من ذلك قوله تعالى:(قل يأيها الكافرون. . .) إلى آخرها فقوله (لا أعبد) يعني في المستقبل لا تطلبوا مني عبادة إلهكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهين. (ولا أنا عابد ما عبدتم) أي (وما كنتُ قط عابداً
فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني أنه لم يُعْهد في عبادة صنم في الجاهلية في وقت مّا، فكيف يرجى ذلك في الإسلام؟! ولا أنتم عابدون في الماضي في وقت مّا ما أنا على عبادته الآن). وأمثال هذا كثيرة فاعرفه.
ومن هذا الجنس قوله تعالى:(كَذَّبَتْ قومُ نوح المرسلين، إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعوني، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، فاتقوا الله وأطيعوني) فإنه إنما كرر قوله (فاتقوا الله وأطيعوني) ليؤكده عندهم وليقرره في نفوسهم مع تعليق كل واحد منهما بعلة؛ فجعل علة الأول كونه أميناً فيما بينهم، وجعل علة الثاني حسم طعمه عنهم وخلوّه من الأغراض فيما يدعوهم إليه.