يقتضي أن يكون (والنهار ليبصروا فيه) وإنما هو مراعى من جهة المعنى، لا من حيث اللفظ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف، لأن معنى قوله (مبصراً) ليبصرواً فيه طرق التقلب في الحاجات.
ومن مقابلة الشيء بمثله أنه إذا ذكر المؤلف ألفاظاً تقتضي جواباً فالمرضي عندنا أن يأتي بتلك الألفاظ في الجواب من غير عدول عنها إلى غيرها مما هو في معناها، فمن ذلك قوله تعالى (وجزاء سيئة مثلها). ومما عيب في هذا الباب قول بعضهم (من افترى ذنباً عامداً أو اكتسب جرماً قاصداً لزمه ما جناه وحاق به ما
توخاه). والأليق أن كان قال (لزمه ما اقترف وحاق به ما اكتسب) ليكون أحسن طباقاً وإن كان ذلك جائزاً في الكلام من حيث إن معناه صواب، لكنه عدول عن الأليق والأولى في هذا الباب. وأمثال هذا كثيرة فاعرفها.
واعلم أن في تقابل المعاني باباً عجيب الأمر يحتاج إلى فضل تأمل وزيادة نظر وتدير، وهو تخليص بالفواصل من الكلام المنثور، وبالأعجاز من أبيات الشعر، مما جاء من ذلك قوله تعالى في حق المنافقين (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون إلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وقوله تعالى (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) ألا ترى كيف فصل الآية الأخيرة (بيعلمون) والآية التي قبلها (بيشعرون) وإنما فعل ذلك لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج إلى نظر واستدلال، حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة بذلك. وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات، معلوم عند الناس، خصوصاً عند العرب، وما كان فيهم من التجارب والتعاود، فهو كالمحسوس عندهم فلذلك قال فيه (يشعرون) وأيضاً فانه لما ذكر السفه في الآية الأخيرة وهو جهل كان ذكر العلم معه أحسن طباقاً، فقال (لا يعلمون).