المعنى لما سبق ذكره، فأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم. وأصحاب الميمنة هم المقتصدون والسابقون هم السابقون بالخيرات. وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى (هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعا). ألا ترى إلى بداعة هذه القسمة؟ فإن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع، وليس لهم ثالث.
وكان جماعة من أرباب هذه الصناعة المنتصبين في صدرها يعجبون يقول بعض الأعراب في هذا المعنى، ويقولون إن ذلك من أصح التقسيمات وهو قوله (النعم ثلاث: نعمة في حال كونها نعمة ونعمة ترجى مستقبلة، ونعمة تأتي غير محتسبة. فأبقي الله عليك ما أنت فيه، وحقق ظنك فيما ترتجيه، وتفضل عليك بما لم تحتسبه). فقالوا إنه ليس في أقسام النعم التي يقع الانتفاع بها قسم رابع سوى ما ذكره الأعرابي. وهذا القول فاسد؛ وهو أن في أقسام النعم التي قسمها هاهنا نقصاً لا بد منه، وزيادة لا حاجة إليها، فإما النقص فإغفاله ذكر النعمة الماضية، وأما الزيادة فقوله بعد النعمة المستقبلة: التي تأتي غير محتسبة، وهذا خطأ لأن النعمة
التي تأتي غير محتسبة هي داخلة في قسم المستقبل، وذلك أن النعمة المستقبلة تنقسم إلى قسمين: أحدهما يرجى حصوله ويتوقع بلوغه، والآخر لا يحتسب ولا يشعر بوجوده، فقوله (ونعمة تأتي غير محتسبة) يوهم أن هذا القسم غير المستقبل، وهو داخل في جملته، ولو قال (ونعمة مستقبلة) من غير أن يقول (ونعمة تأتي غير محتسبة) لكان قوله كافياً، إذ النعمة التي ترجى والنعمة التي لا يحتسب تدخلان تحت قسم المستقبل. وكان ينبغي أن يقول (النعم ثلاث نعمة ماضية، ونعمة في حال كونها، ونعمة تأتي مستقبلة، فأحسن الله آثار النعمة الماضية وأبقى عليك النعمة التي أنت فيها، ووفر حظك من النعمة التي تستقبلها). ألا ترى لو قال ذلك لكان قد طبق به مفصل الصواب، فافهم ما ذكرناه وقس عليه.
ووقف أعرابي على مجلس الحسن فقال:(رحم الله من أعطى من سعة أو واسى من كفاف أو آثر من قلة). فقال الحسن: ما ترك لأحد عذراً؛ فانصرف الأعرابي بخير كثير.