أشياعه، أكبر من العذاب، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله:(يا أبت) توسلاً إليه واستعطافاً، فقال له في الجواب (قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم: لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا).
ألا ترى كيف أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظ العناد، فناداه باسمه ولم يقابل قوله (يا أبت) بابني؟ وقدم الخبر على المبتدأ في قوله:(أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم) لأنه كان أهم عنده وفيه ضروب من التعجب والإنكار، لرغبة إبراهيم عن آلهته وأن آلهته لا ينبغي أن يرغب أحد عنها.
ومن هذا الباب، قوله تعالى:(قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: أتقتلون
رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، وأن بك كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم. أن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) ألا ترى ما أحسن مأخذ هذا الكلام وألطف مغزاه؟ فانه أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال: لا يخلو هذا الرجل من أن يكون كاذباً، فكذبه يعود عليه ولا يتخطاه، أو يكون صادقاً فيصيبكم بعض ما يعدكم إن تعرضتم له. وفي هذا الكلام من حسن الأدب والإنصاف ما أذكره لك، أيها المتأمل، فأقول: إنما قال (يصبكم بعض الذي يعدكم) وقد علم أنه نبي صادق وأن كل ما يعدكم به، لا بد من أن يصيبهم (كله) لا بعضه، لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى أن يسلك معهم طريق الإنصاف والملاطفة في القول، ويأتيهم من جهة المناصحة، فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله، وأدخل في تصديقهم له، وقبولهم منه، فقال (وإن بك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم). وهو كلام المنصف في مقابلة غير المشتط فيه؛ وذلك أنه حين فرضه صادقاً فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد به، لكنه أردفه بقوله:(يصبكم بعض الذي يعدكم) ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه