إن الأصول الخماسية لا تخلو من أحدها البتة. ومما بين طرف اللسان وأصول الثنايا ثلاثة أحرف وهي الطاء والدال والتاء، وتسمى النطعية. وثلاثة أحرف مما بين طرفي اللسان وفويق الثنايا وهي: الصاد والسين والزاي وتسمى الأسلية. وثلاثة أحرف مما بين طرف اللسان وأطراف الثنايا وهي: الظاء والذال والتاء، وتسمى اللثوية. وحرف واحد مما بين باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العلى وهو الفاء. وثلاثة أحرف مما بين الشفتين وهي الباء والميم والواو، وتسمى الشفهية. وحرف واحد من الخيشوم وهو النون، ويسمى الخيشومي. فهذه جميع مخارج الحروف.
وحيث انتهى القول بنا إلى هذا المقام وأتينا على ذكر الأصول والحروف وانقسام المخارج فينبغي حينئذ أن تذكر السبب في حسن ما تباعد من المخارج، وقبح ما تقارب منها، فتقول:
قال أبو محمد بن سنان الخفاجي في كتابه:(إن الحروف التي هي أصوات تجري من السمع مجري الألوان من البصر، ولا شك في أن الألوان المتباينة إذا اجتمعت كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة؛ ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة، لقرب ما بينه وبين الأصفر، وبعد ما بينه وبين الأسود). هذا
حكاية كلامه بعينه. ولنا عليه اعتراض، وهو أنا نقول: إذا ثبت لك أن الألوان المتباينة في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة فكيف يلزم على هذا أن نقيس عليه السمع ونجريه مجراه؟ فإن قال في الجواب عن ذلك (إني إنما قست السمع في أصوات الحروف المتباعدة على البصر في الألوان المتباعدة، لأن السمع حاسة والبصر أيضاً حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب). قلنا له: إنما يستقيم لك ما ذكرته من هذا القياس أن لو توقف في عرفان جودة اللفظة على سماع أصوات مخارجها، كما يتوقف في عرفان حسن الألوان على إبصارها ورؤيتها، وإنما قد يعلم جودة اللفظة، ويعرف حسن تركيبها، من غير أن يسمع لها صوت؛ وذلك أن المتأمل للكلام