للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تواضعه صلى الله عليه وسلم وعلو نفسه]

والمقصود: أنه لن ينتظر حتى يأتي كسرى آخر، فهذا كله حصل في طريق الهجرة، ومر صلى الله عليه وسلم على خيمتين يقال لهما خيمتي أم معبد، وهي امرأة خزاعية كانت برزة جلدة، وسيأتي ذكرها في السيرة النبوية إن شاء الله، وكان لها خيمتان تطعم الأضياف الذين يمرون عليها، فمر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الركب الذي ذكرناه، وسألها اللبن، فلم يجد عندها شيئاً، فكان أن ظهرت إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم إذ مسح على الشاه ودر لبنها، وشرب صلى الله عليه وسلم بعد أن سقى القوم جميعاً، وكما بين الله في حالة الخيمتين ما للنبي عليه الصلاة والسلام من كرامة ومنزلة عند ربه أن درت الشاة وهي أصلاً ليست ذات لبن، بين صلى الله عليه وسلم خلقه القويم الرفيع صلوات الله وسلامه عليه.

وإن من دلائل أخلاق الرجال أنهم إذا صحبوا أناساً في سفر لا يترفعون عليهم، ولا يظهرون للغريب أو لمن يقدمون عليه أنهم أفضل الركب وأفضل الموجودين، فيبز الإنسان أقرانه، ويرتفع على أصدقائه، وإنما بين صلى الله عليه وسلم أنه أقلهم شأناً وهو ليس كذلك، فسقى أبا بكر وسقى عامر بن فهيرة، ثم سقى عبد الله بن أريقط وهو كافر، ثم سقى المرأة صاحبة الدار، فلما شربوا جميعاً قال عليه الصلاة والسلام: (ساقي القوم آخرهم شرباً)، ثم شرب صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كله يدل على كريم معدنه، وطيب أصله صلوات الله وسلامه عليه، ومثل هذا لا يحتاج إلى دليل، وإنما يحتاج إلى أن يلفت الإنسان النظر إليه حتى يعرف أي ميزان خلقي كان عليه نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وقد قلنا مراراً: إن الإنسان لا يستطيع أن يقيم الحق بالناس حتى يقيمه في نفسه، وإنه لن ينال الإمامة في الدين والنصرة وأن يكون شخصاً متبوعاً يكتب له القبول حتى يقيم هذا الأمر في نفسه أولاً، والله جل وعلا أجلّ من أن يخدع وأكبر تبارك وتعالى من أن يوارى معه.

فسار صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى المدينة، وقد خرج عليه الصلاة والسلام من مكة يوم الإثنين ومكث في سفر هجرته أسبوعين، فدخل المدينة يوم الإثنين الثامن من شهر ربيع الأول، وعلى القول الذي مضى معنا أنه إذا قلنا إنه عليه الصلاة والسلام ولد في التاسع من شهر ربيع الأول كما حررنا هذا في اللقاء الأول؛ يكون صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة قد أتم خمسين عاماً بالتمام والكمال.

دخل عليه الصلاة والسلام من جهة قباء وكانت يوم ذاك دياراً لبني عمرو بن عوف، فنزل على دار كلثوم بن الهدم رضي الله عنه وأرضاه، وكانت مستقبلة مسجد قباء اليوم، فأسس مسجد قباء، وهو أول من مسجد أسس في الإسلام، قال الله جل وعلا: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:١٠٨] أي: مسجد الضرار، {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:١٠٨] أي: من أول يوم في هجرتك، {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:١٠٨]، فمكث صلى الله عليه وسلم في دار كلثوم بن الهدم وأسس مسجد قباء، ومكث في قباء الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، ويوم الجمعة مضى صلى الله عليه وسلم ومعه جمع ممن استقبلوه أكثر من مائة رجل حتى أتى بطن الوادي ما يسمى اليوم بمسجد الجمعة، فصلى صلى الله عليه وسلم الجمعة بأصحابه في ذلك الموطن، وهي أول جمعة أقيمت بعد هجرته صلوات الله وسلامه عليه، ثم ركب القصواء، وأرسل إلى إخوانه من بني النجار، وقد قلنا: إن هاشماً جد النبي صلى الله عليه وسلم كان متزوجاً من امرأة من بني النجار يقال لها سلمى، وأنجب منها ابنه شيبة الذي عرف بعد ذلك بـ عبد المطلب، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى أخواله من بني النجار فجاءوا متقلدين السيوف، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فسمع فيها التكبير: الله أكبر جاء رسول الله، فلا يمكن أن يغبط أحد أكثر من أن يغبط أهل المدينة آنذاك عندما خصهم الله بأن جعل بلادهم وجعلهم هم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج الحيان الأوس والخزرج وكانوا كما قال ابن خلدون وغيره: كانوا ذوي قوة وأنفة وشكيمة وإباء، فلم يقدموا إلى أحد من الملوك أتاوة ولا غيرها ولا جباية.

فدخل صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنار منها كل شيء صلوات الله وسلامه عليه، كما قال أنس، وهو عليه الصلاة والسلام على ناقته القصواء، والناس ذات اليمين وذات الشمال، ولم يكن الأنصار قوماً ذا ثراء، لكنهم كانوا محبين لرسولهم صلى الله عليه وسلم، فيتسابقون إلى زمام ناقته: هلم إلى العز والمنعة هلم إلى العدد والأنفة، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: (خلوا سبيلها -أي: الناقة-؛ فإنها مأمورة)، حتى أتت إلى موضع المسجد اليوم فبركت فيه، وكانت الأرض ليتيمين من أخواله من بني النجار، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن ينزل في ديار أخواله، حتى يكرمهم بأنه نزل عندهم على غيرهم، فبركت الناقلة ولم ينزل منها عليه الصلاة والسلام ثم قامت، فجالت جولة كأنها تتأكد من الموضع، ثم رجعت إلى مبركها الأول فبركت، فنزل صلى الله عليه وسلم بعد أن عمد أبو أيوب الأنصاري إلى متاعه ورحله وأدخله داره، فقال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع رحله)، فسكن عليه الصلاة والسلام في دار أبي أيوب الأنصاري مدة بناء الحجرات والمسجد الشريف.

<<  <  ج: ص:  >  >>