للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[معجزاته صلى الله عليه وسلم]

فصل: في معجزاته صلى الله عليه وسلم.

فمن أعظم معجزاته، وأوضح دلالاته: القرآن العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢]، الذي أعجز الفصحاء، وحير البلغاء، وأعياهم أن يأتوا بعشر سور مثله، أو بسورة، أو بآية، وشهد بإعجازه المشركون، وأيقن بصدقه الجاحدون، والملحدون.

القرآن الكريم معجزة نبينا الخالدة، وهو معجز في لفظه ومعناه، قال شوقي رحمه الله: جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم وقد حاول إبراهيم النظام أحد رءوس المعتزلة في عصره أن يدعي أن القرآن تستطيع العرب أن تأتي بمثله لفصاحتهم، ولكن الله -في زعمه- صرفهم عن هذا، وسمي قول إبراهيم هذا بالصرفة، فهو يقول: إن القرآن معجز، لكن الإعجاز في أن الله صرف العرب على أن يقولوا مثله، وإلا فالعرب فصحاء يستطيعون أن يقولوا مثله في لفظه، ولم يقبل منه أحد هذا القول، بل إن غيره من رؤساء المعتزلة ردوا عليه، والحق أن الله أعجز العرب أن تأتي بمثل القرآن، بمعنى أن القرآن معجز في لفظه ومعناه.

وسأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر، فانشق حتى صار فلقتين، وهو المراد بقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:١].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها)، وصدق الله قوله بأن ملك أمته بلغ أقصى المشرق والمغرب، ولم ينتشر في الجنوب ولا في الشمال، وهذا فيه نظر، فليس المقصود المشرق والمغرب تحديداً، وإنما المقصود انتشار الدين في كل مكان.

وكان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر وقام عليه حن الجذع حنين العشار حتى جاء إليه والتزمه، وكان يئن كما يئن الصبي الذي يسكت، ثم سكن، ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة، واختلف العلماء في معنى نبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام على قولين: القول الأول: أن يكون الماء نبع فعلاً من بين أصابعه، أي: خرج من بين أصابعه.

القول الثاني: أن يكون المعنى أنه ببركته عليه الصلاة والسلام لما وضع أصابعه تكاثر الماء ببركته عليه الصلاة والسلام، ولم يكن هناك نبع حقيقي من أصابعه، والقول الأول هو الأظهر؛ إذ لا مانع يمنعه، وعليه الأكثرون.

وسبح الحصى في كفه، وثم وضعه في كف أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فسبح.

وكانوا يسمعون تسبيح الطعام عنده وهو يؤكل، وسلم عليه الحجر والشجر ليالي بعث، وكلمته الذراع المسمومة، ومات الذي أكل معه من الشاة المسمومة، وعاش هو بعده أربع سنين.

الذي أكل معه من الشاه هو بشر بن البراء، وهنا لم يتكلم المصنف عن محبة بشر للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه فائدة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قدمت له الشاه وهي مسمومة، وفي الوقت الذي أكل منها أكل معه بشر بن البراء، فلما لاكها بشر في فمه عرف أنها مسمومة ومع ذلك لم يلفظها تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسبقت بقدر الله أن تدخل جوفه فيموت، فلما مات اقتص النبي صلى الله عليه وسلم من المرأة اليهودية التي سمت الشاه.

وأصيبت رجل عبد الله بن عتيك الأنصاري فمسحها فبرأت من حينها، وأخبر أنه يقتل أبي بن خلف الجمحي يوم أحد، فخدشه خدشاً يسيراً فمات.

وقال سعد بن معاذ لأخيه أمية بن خلف: سمعت محمداً يزعم أنه قاتلك، فقتل يوم بدر كافراً.

وأخبر يوم بدر بمصارع المشركين فقال: (هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، فلم يعد واحد منهم مصرعه الذي سماه).

وأخبر أن طوائف من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بنت ملحان منهم، فكان كما قال.

وقال لـ عثمان: إنك ستصيبك بلوى، فقتل عثمان.

وقال للحسن بن علي: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المؤمنين عظيمتين)، فكان كذلك.

وأخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتل، وبمن قتله، وهو بصنعاء اليمن، وبمثل ذلك في قتل كسرى.

وأخبر عن الشيماء بنت نفيلة الأزدية أنها رفعت له في خمار أسود على بغلة شهباء، فأخذت في زمن أبي بكر الصديق في جيش خالد بن الوليد بهذه الصفة.

وقال لـ ثابت بن قيس بن شماس: (تعيش حميداً، وتقتل شهيداً)، فعاش حميداً، وقتل يوم اليمامة شهيدًا.

وقال لرجل ممن يدعي الإسلام وهو معه في القتال: (إنه من أهل النار)، فصدق الله قوله بأن نحر نفسه.

وجماع هذا علمياً أن يقال ما يلي: إن الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أولاً: غيب يتعلق بالأمم والقرون الغابرة، ومثاله أخبار يوسف، وأصحاب الكهف، وقوم نوح، وقوم عاد، فهذا كله إخبار عن غيب سبق.

الثاني: إخباره عن غيب وقع في حياته قبل أن يموت، مثل إخباره بالذي قتل نفسه، وإخباره بـ الأسود، ومقتل قريش يوم بدر، ومقتل الأسود العنسي، فهذا كله حصل في حياته صلى الله عليه وسلم.

وإخباره بغيب وقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، مثل: (إن ابني هذا سيد)، فهذا وقع بعد وفاته، وقصة سراقة بن مالك أنه سيلبس سواري كسرى، وهكذا أشراط الساعة فإنها ستقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

هذا خلاصة ما يمكن أن يقال في الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.

ودعا لـ عمر بن الخطاب، فأصبح عمر فأسلم، ودعا لـ علي بن أبي طالب أن يذهب الله عنه الحر والبرد، فكان لا يجد حراً ولا برداً، ودعا لـ عبد الله بن عباس أن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، فكان يسمى الحبر والبحر لكثرة علمه، ودعا لـ أنس بن مالك بطول العمر، وكثرة المال والولد، وأن يبارك الله له فيه، فولد له مائة وعشرون ذكراً من صلبه، وكانت نخله تحمل في السنة مرتين، وعاش مائة وعشرين سنة أو نحوها، وكان عتيبة بن أبي لهب قد شق قميصه وآذاه، فدعا عليه أن يسلط الله عليه كلباً من كلابه، فقتله الأسد بالزرقاء من أرض الشام، وشكي إليه قحوط المطر وهو على المنبر، فدعا الله عز وجل وما في لسماء قزعة، فثار سحاب كثير أمثال الجبال، فمطروا إلى الجمعة الأخرى حتى شكي إليه كثرة المطر، فدعا الله عز وجل فأقلعت وخرجوا يمشون في الشمس.

وأطعم أهل الخندق -وهم ألف- من صاع شعير أو دونه وبهيمة، فشبعوا وانصرفوا والطعام أكثر ما كان.

وأطعم أهل الخندق أيضاً من تمر يسير أتت به ابنة بشير بن سعد إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة.

وأمر عمر بن الخطاب أن يزود أربعمائة راكب من تمر كالفصيل الرابض، فزود، وبقي كأنه لم ينقص تمرة واحدة، وشهد الذئب بنبوته.

شهادة الذئب بنوته رواها الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ومر في سفر ببعير يستقى عليه، فلما رآه جرجر ووضع جرانه، فقال: (إنه شكا كثرة العمل، وقلة العلف).

ودخل حائطاً فيه بعير -الحائط: هو البستان- فلما رآه حن وذرفت عيناه، فقال لصاحبه: (إنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه).

فهذه كلها أخبار تدل على ما سخره الله جل وعلا له صلوات الله وسلامه عليه هي والتي بعدها.

إلى أن قال في آخر صفحة (١١٦): وخرج على مائة من قريش وهم ينتظرونه فوضع التراب على رءوسهم ومضى ولم يروه، وتبعه سراقة بن مالك بن جشعم يريد قتله أو أسره، فلما قرب منه دعا عليه فساخت يدا فرسه في الأرض، فناداه بالأمان، وسأله أن يدعو له فدعا له، فنجاه الله، وله صلى الله عليه وسلم معجزات باهرة، ودلالات ظاهرة، وأخلاق طاهرة، واقتصرنا منها على هذا تحقيقاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>