وبعد أن ذكر المصنف رحمه الله بعضاً مما يشير إلى غزواته صلوات الله وسلامه عليه أشار إلى من كان يكتب له عليه الصلاة والسلام، وهذا يسوقنا إلى مسألة مهمة، وهي أن الله جل وعلا بعث نبيه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وقد عاش عليه الصلاة والسلام لا يقرأ ولا يكتب أربعين عاماً قبل النبوة، وهذا لحكمة أرادها الله، حتى لا يأتي أحد ويقول: إن هذا النبي حصل على ما حصل عليه مما يقوله من قرآن لمعرفة بأخبار الأمم السابقة، وهذا أمر أكد القرآن عليه كثيراً، قال الله جل وعلا:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}[العنكبوت:٤٨]، وقال جل وعلا:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:٥٢]، وقال جل وعلا:{وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}[القصص:٨٦]، فالنبي عليه الصلاة والسلام حفظه الله من أن يقرأ ويكتب قبل النبوة حتى لا يتسلط أحد عليه ويكون ذلك عذراً لأحد ممن يعترض على دينه، كما أخبر الله عن الكفار أنهم قالوا:{أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:٥]، أي: طلب من غيره أن يكتبها له.
فرد الله جل وعلا عليهم ذلك كله، كما هو ظاهر في القرآن، فلما كان الله قد حفظ الله نبيه من هذا جعل له كتبة، والشيء الذي لا يحسنه الإنسان يكله إلى غيره، وليس هذا بنقص فيه، بل هذا من مقومات كمال المرء، والنبي عليه الصلاة والسلام -وهو رأس الملة وإمام الأمة يقود الناس- شرع الله جل وعلا له أن يتخذ كتبة يعينونه على أمره عليه الصلاة والسلام، فيكتبون الوحي الذي ينزل من السماء، ويكتبون كتبه التي يبعثها إلى غيره، ويكتبون بعض الأحكام التي وجدت عندهم، كما في كتاب عمرو بن حزم، فهذا كله قام به ثلة من الصحابة؛ لأن العرب كانت -في الغالب- أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، فالذين كانوا يكتبون كانوا قليلين، ومنهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وكلهم كانوا كتبة، وكان هناك بعض الصحابة قد جمع المزيتين، فكان خطيباً للنبي عليه الصلاة والسلام وكان كاتباً، كما هو شأن ثابت بن قيس، وكان من هؤلاء الكتبة من هو متميز، كما يوجد في الطلاب أو في الوزراء أو في المساندين لأي حاكم قوم مميزون، فكان زيد بن ثابت رضي الله عنه أحسن الصحابة في الكتابة، وتعلم لغة يهود، وهو الذي طلب منه الصديق رضي الله تعالى عنه -والفاروق بعد ذلك- أن يجمع القرآن.
فهؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم ثلة من الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أن العاقل يتخذ من أسباب العصر الذي يعيش فيه ما ينفعه في أموره، خاصة تلك التي تتعلق بشئون الدعوة.