ثم ثالثهم عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعثمان مر معنا أنه تزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر حتى جاوز الثمانين، فدخل عليه الخوارج في يوم قتله وأحاطوا الدار ثم قتلوه، والإنسان إذا أضمر السوء لم يعدم حيلة في فعل ذلك السوء، وكان له ابن ربيب -أي: ابن زوجته- فقد تزوج عثمان امرأة لها ابن من رجل آخر، فلما ولي عثمان الخلافة جاءه هذا الابن الربيب وكان فاسقاً يطلب الولاية، فلم يعطه عثمان ولاية، فترك المدينة وذهب إلى مصر -أرض خصبة جديدة- وتنسك، يعني: أظهر التدين، ثم اقتنع الناس به أنه متدين، ثم بعد ذلك شغب على الأمير، أي: الأمير الذي وضعه عثمان أخذ هذا يشغب عليه، فبعث الأمير إلى عثمان يخبره أن هذا الغلام الذي هو ربيبك يتكلم علي أمام الناس ويذهب هيبة الأمارة، فأراد عثمان أن يعالج الأمر بحكمة فبعث قافلة فيها بعير وهدايا وعطايا لهذا الفتى على أنه يقنع بها ويكف شره عن الأمير؛ إكراماً له أنه ابن زوجته، فأخذ العطايا وأتى بها في صحن المسجد -المكان غير المستور- ونادى الناس وقال: إن عثمان يمالئني في دين الله -يرشيني- حتى لا أنكر المنكر، فازداد الناس قناعة به، فلما ازدادوا قناعة به خرج بهم من أرض مصر وقدم بهم إلى المدينة، وأحاطوا برجل يقول عنه صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق:(ألا أستحيي من رجل تستحي منه الملائكة)، ثم دخلوا عليه بعد أن خرج إليهم وهو فوق الثمانين يستعطفهم ألا يقتلوه، يقول:(سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث: زنا بعد إحصان، ووالله ما زنيت لا في جاهلية ولا في إسلام، ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها النبي صلى الله عليه وسلم، والتارك لدينه، فوالله ما تركت ديني، وقاتل النفس، ولا قتلت أحداً)، فما استمعوه، ثم أحرقوا الدار من الخلف ودخلوا عليه، وهو رجل قد جاوز الثمانين، وأنا كنت أقول لطلابي في المدنية: لو قدر لنا أن ندخل بيت المقدس -سندخله إن شاء الله- ووجدنا يهودياً فوق الثمانين لاستحيينا من الله أن نقتله، فهؤلاء دخلوا على عثمان على فضائله، فهو مشهود له بالجنة بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصحف بين يديه، وهو صائم، فقتلوه، فقطرت قطرة من دمه على قول الله في سورة البقرة:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}[البقرة:١٣٧] ومات، ثم دخل عليه رجل يقال له: عمير بن ضابئ البرجمي فوجده مقتولاً، فصعد على صدر عثمان وكسر أضلاعه وهو ميت، ثم نزل وهو القائل من قبل: هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله فانتقم الله لهذا الصحابي الجليل، فما عاش أحد من قتلة عثمان إلا وقد مات مقتولاً، حتى إن أحد القتلة ضرب نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان ضربها على عجيزتها من خلف، فقالت: ما لك أبعدك الله، وقطع الله يديك ورجليك، وأدخلك النار، فعاش هذا الرجل فرآه رجل في البصرة -لا يعلم أنه دخل على عثمان - مقطوع اليدين والرجلين ويقول: يا ويلاه من النار، فهذا الذي رآه بحسن نية قال له: وأنت تدخل النار! أنت تدخل الجنة؛ لأنك مبتلى مقطوع اليدين والرجلين، قال: إنك لا تدري، لقد دخلت على عثمان يوم الدار وحصل ما حصل، فدعت علي زوجته، فأنا الآن مقطوع اليدين ومقطوع الرجلين، ولم تبق إلا الثالثة -عياذاً بالله-: أن أدخل النار.
المهم أنهم دخلوا عليه فقتلوه، والذي قتله طعنه تسع طعنات، وهو يقول لما خرج: طعنته تسع طعنات: ثلاث طعنات لله! وطعنته ست طعنات لما في قلبي من الغل عليه.
المقصود من هذا أن استباحة دماء المسلمين ليس بالأمر الهين، والإنسان قد يدخل في الأمر يظنه أول الشأن يسيراً، فيدخل في نفق مظلم يصعب عليه أن يخرج منه، هذا عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم له:(بشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقال: الله المستعان).