وفي يوم الخندق أراد الله أن يبين أن مع العسر يسراً، وأن آخر الليل فجر، ففي عز ما كان فيه المشركون مسيطرين محيطين بالمدينة، أخذ النبي عليه الصلاة والسلام بالرأي، والإنسان مهما بلغ عقله ورأيه وفضله يحتاج إلى أن يستشير الناس، وما استكبر صلى الله عليه وسلم عن أن يستشير أصحابه، وأخذ برأي سلمان، حيث قال له: إننا كنا في بلاد فارس نصنع كذا وكذا.
فلا يأتي إنسان ويقول: هذا تشبه بالكفار؛ فالتشبه بالكفار إنما يكون في المسائل التي تكون رمزاً لهم، وتكون عنواناً على كفرهم، فهذا لا يجوز، أما حضارات الأمم فلا يجوز لأحد أن يقيدها، فقد كان الفرس يصنعون هذا في حروبهم، فما امتنع صلى الله عليه وسلم عن أن يصنعه في حروبه إذا كان يقيه غائلة الأعداء، وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر هو عند مسلم:(كنت أريد أن أنهى أمتي عن الغيلة، حتى علمت أن فارس والروم تصنعانها فلا يضرانها شيئاً)، والغيلة أن تضرع المرأة ابنها وهي حامل على إحدى التفسيرين لها، وهو المشهور، ومع ذلك لما علم عليه الصلاة والسلام أن فارس والروم -وهم مجوس ونصارى- يصنعون هذا الصنيع قبله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه حضارة مشتركة يأخذ الناس بها كلهم، فليس وقفاً على أمة دون أمة، وإنما المحظور ما كان شعاراً ليهود أو كان شعاراً لمجوس أو كان شعاراً لنصارى يتعلق بدينهم وشعائرهم، فهذا هو الذي فيه الموالاة والبراء، ولا يجوز لأحد أن يحاكيهم فيه أبداً حفاظاً على شعيرة الدين.
وفي ذروة هذا كله ينزل صلى الله عليه وسلم فيضرب صخرة فيقول:(الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إنني لأرى قصر المدائن الأبيض من مكانها)، ثم يضرب ضربة ثانية ويقول:(الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إنني لأرى قصور هرقل -أو كلمة نحوها- من مكانها)، ثم ضرب الثالثة وقال:(الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إنني لأرى قصر صنعاء الأبيض في مكانه)، ففي شدة ما هو فيه كان يبشر الصحابة ليبين لهم ألا يدب اليأس إليهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا كله وهو لم يدرك واحدة منها، فلم تفتح فارس ولا بلاد الروم ولا اليمن في حياته صلى الله عليه وسلم؛ إذ ليس شرطاً أن تفتح في حياته، كما قال تعالى:{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}[يونس:٤٦] والمقصود أن الآيات تقع في حياته وتقع بعد وفاته، فالدين ليس معلقاً بأحد، والقائد الموفق من يبذر الفأل الحسن والعزيمة في نفوس المسلمين.
فهذه المعركة كانت اختباراً للناس وتصفية لهم، فالمنافقون قالوا: محمد يعدنا بكذا وكذا وأحدنا لا يقدر أن يقضي حاجته، فقال الله عنهم:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:١٢]، وقال عن أهل الإيمان:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}[الأحزاب:٢٢]، فهذا ما يتعلق بمعركة الأحزاب.