قال المؤلف رحمه الله: وكانت مدة علته اثني عشر يوماً، وقيل: أربعة عشر يوماً، وغسله علي بن أبي طالب وعمه العباس والفضل بن عباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد، وشقران مولاه، وحضره أوس بن خولي الأنصاري، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية من ثياب سحول -بلدة باليمن-، ليس فيها قميص ولا عمامة، وصلى عليه المسلمون أفذاذاً لم يؤمهم عليه أحد، وفرش تحته قطيفة حمراء كان يتغطى بها، ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران وأطبق عليه تسع لبنات، ودفن في الموضع الذي توفاه الله فيه حول فراشه، وحفر له وألحد في بيته الذي كان بيت عائشة، ثم دفن معه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
هذا ما ذكره المصنف، وتفصيل ذلك: إن العلماء اختلفوا في مدة مرضه صلى الله عليه وسلم، والصحيح إن شاء الله أنه كان عشرة أيام، ذكره البيهقي في (دلائل النبوة) بسند صحيح، لكن ليست مدة المرض هي إرهاصات الوفاة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم قبل ذلك بدنو الأجل، ومما دل على دنو أجله أحداث منها: حجة الوداع، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب ثم يودع الناس ويقول:(لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، ولما أنزل الله جل وعلا عليه قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}[المائدة:٣]، علم صلى الله عليه وسلم أن الدين مادام قد تم فإنه لا حاجة لبقائه، وأنه سيقبض في ذلك العام.
الأمر الثاني: أن جبريل كان يعارضه القرآن -وهذا مقدم على الأمر الأول- في كل عام في رمضان مرة، فلما كان العام الذي توفي -أي: آخر رمضان صامه صلى الله عليه وسلم- عارضه جبريل القرآن مرتين، ففهم صلى الله عليه وسلم أن هذا إشعار بدنو الأجل.
الحالة الثالثة: أن عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأرضاه رأى رؤيا، فقد رأى أن الأرض تشد إلى السماء بأشطان، أي: بحبال غلاظ شداد فعرضها على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام: (هذه وفاة ابن أخيك) يقصد نفسه صلى الله عليه وسلم رواه البزار ثم إنه خطب الناس وقال: (إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقاء الله ثم الجنة، فاختار لقاء الله ثم الجنة، ففقها أبو بكر وعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دنا أجله).
الخامسة: أنه صلى الله عليه وسلم كان مشفقاً على معاذ، ومعاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان كريماً، والدين أضاع ماله حتى حُجر عليه، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يكرمه فبعثه إلى اليمن معلماً وجابياً للزكاة، ومعلوم أن من يجبو الزكاة له منها، فالله يقول:{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}[التوبة:٦٠]، فللعاملين حظ من الزكاة، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يكرم معاذاً كذلك، فلما ودع عليه الصلاة والسلام معاذاً قال له:(لعلك أن تأتي قبري ومسجدي)، مما يشير إلى قرب أجله، وأن معاذاً سيعود من اليمن والنبي صلى الله عليه وسلم قد مات، وهذا قد وقع فعلاً عند مجيء معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه.