[ذكر بعض خبر أسامة بن زيد]
وكان أسامة رضي الله عنه أثيراً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أكبر من الحسن بن علي بقرابة عشر سنين، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يضع أسامة على فخذ ويضع الحسن على الأخرى، ويقول: (اللهم إني أحبهما فأحبهما)، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها: (أنه صلى الله عليه وسلم قام ليمسح المخاط من أسامة رضي الله عنه، فأرادت عائشة أن تمسحه هي بنفسها، فقال لها: يا عائشة! إني أحبه فأحبيه)، وهذا فضل من الله جل وعلا يضعه الله تبارك وتعالى في القلوب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف).
ولما كان في حجة الوداع صلوات الله وسلامه عليه ركب القصواء يريد أن ينفر النفرة الأولى من عرفة إلى مزدلفة، فكأنه تأخر قليلاً ينتظر أسامة، فكان في الحجاج من هو حديث عهد بالإسلام من حجاج العرب وحجاج اليمن ممن لا يعرفون منزلة أسامة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا النبي عليه الصلاة والسلام يستبطئ كأنه ينتظر أحداً أخذوا يحدقون بأبصارهم ينتظرون رجلاً عظيماً سيأتي، فجاء أسامة يجري وهو غلام أسود، ثم حمله النبي صلى الله عليه وسلم على ظهر الدابة، وذهب به متوجهاً إلى مزدلفة وهم ينظرون ويقول بعضهم لبعض: أأخرنا من أجل هذا؟ ولا يعلمون ما يكنه صلى الله عليه وسلم من محبة عظيمة لهذا العبد الصالح حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما سرقت المرأة المخزومية وأراد القرشيون ألا يقام عليها الحد لجئوا إلى أسامة ليشفع لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ومن يقدر على هذا -أي: يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم- أعظم من أسامة رضي الله عنه وأرضاه؟! فكلمه فقال له صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله) في الحديث المشهور.
ومع هذا فإن المحبة القلبية شيء والحكم على الشيء بالصواب أو الخطأ شيء آخر؛ فإنك لن تقيم الدين إذا كنت تحابي في قضايا يتعلق بها صواب وخطأ، فهو عليه الصلاة والسلام يحمل في قلبه من الحب لـ أسامة ما بينا بعض أماراته، ومع ذلك لم يدفعه ذلك إلى ترك الحق، ومن ذلك أنه خرج أسامة في سرية، ثم إن أسامة حارب رجلاً من المشركين، فلما تمكن أسامة رضي الله عنه من هذا المشرك وسقط السيف من المشرك وعلم بأنه هالك لا محالة قال: لا إله إلا الله، ففهم أسامة أن هذا الرجل قالها ليتقي بها حر سيف أسامة، فقتله، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأشاح صلى الله عليه وسلم بوجهه عنه، وقال: (يا أسامة! أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!) فقال: يا رسول الله! إنه لم يقلها إلا خوفاً من السيف.
وقال: (أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟!) ومازال يعاتبه، ثم قال له: (كيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة)، قال أسامة: فتمنيت أنني لم أسلم إلا ذلك اليوم، وهذا يدل على أن من حمل في قلبه (لا إله إلا الله) يوكل أمره إلى الله، إلا بحق شرعي ظاهر كما هو معمول به عند علماء المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (زنا بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، والتارك لدينه المفارق للجماعة، وقتل النفس)، فهذا الأمور التي يحق بها قتل المرء بطريقة الشرع، قال الله تعالى: {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:٦٨] أي: بطريق شرعي ظاهر عبر القضاء، لا عبر أمور أخر يصنعها الإنسان كيفما يشاء.
ثم إن أسامة رضي الله عنه استفاد عظيماً من هذه الحادثة، فلما جاءت حروب علي رضي الله عنه مع خصومه كان أسامة يحب علياً جداً، وعلي يحب أسامة، فتعجب علي من أن أسامة لم يدخل معه في حروب، فقال له معاتباً: ما كنا نظنك إلا واحداً منا آل البيت! فقال أسامة رضي الله عنه وأرضاه: يا أبا الحسن! والله لو أخذت بمشفر الأسد لأخذت بمشفره الآخر حتى نموت جميعاً أو نحيا جميعاً حباً فيك، أما هذا الأمر الذي أنت فيه فلا أدخل فيه أبداً.
أي: اطلب مني ما تشاء إلا أنني لن أدخل معك في حرب ضد مسلمين، فأخذها من قسوة عتاب النبي صلى الله عليه وسلم له، لما قال له: (كيف تصنع بلا إله يوم القيامة) فما أحب أن يكرر الخطأ مرة أخرى رضي الله عنه وأرضاه.
فكون امرئ يتساهل في دماء المسلمين تحت أي تأويل -كما يحدث في العراق وغيرها- هو من الجهل، فمن قال لا إله إلا الله يكف السيف عنه إلا بحق وطريقة شرعية عبر قضاء، أما أن يتولى الإنسان قتل الناس بحجج واهية في ذهنه فهذا لم يفقه ما أنزل الله على رسوله ولا ما أوحى الله به إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.
ولو كان النبي ملتمساً عذراً في هذه القضية لأحد لشخصه لالتمسه لـ أسامة في قتل ذلك المشرك الذي كان إلى قبل لحظات لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وإنما عندما رأى السيف مشهوراً على رأسه رمى السيف وقال: لا إله إلا الله ليعصم بها دمه، ومع ذلك لما قتله أسامة عنفه النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم إن أسامة أسند إليه النبي عليه الصلاة والسلام إمرة جيش أراد أن يذهب مرة أخرى إلى مؤتة بعد أن قتل أولئك الثلاثة، ولكنه صلى الله عليه وسلم قبض وانتقل إلى الرفيق الأعلى والمحل الأسنى قبل أن ينفذ جيش أسامة، فكان أول ما صنعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه أنفذ جيش أسامة بعد وفاة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه إذا لقي أسامة يقول: أهلاً بالأمير، مات النبي صلى الله عليه وسلم وأنت علي أمير؛ لأن عمر كان في الجيش الذي جهزه النبي صلى الله عليه وسلم وجعل أسامة قائداً له، فكبار الصحابة كانوا في ذلك الجيش، فلما اعترض البعض وأخذوا يتحدثون الأقاويل قائلين: كيف يصبح أسامة قائداً للجيش؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لئن اعترضتم عليه فلقد اعترضتم على أبيه من قبل، وايم الله إنه لخليق بالأمارة) رضي الله عنه.
فهذا بعض من سيرة حبيب رسول صلى الله عليه وسلم، وإن من حبنا لنبينا صلى الله عليه وسلم أن نحب هذا العبد المؤمن التقي الغلام الذي كبر بعد ذلك وشاخ حتى مات في خلافة معاوية.
كما أن من مواليه ثوبان وغيره من الصحابة، ولكن لا يوجد حديث مستفيض ولا سيرة مستفيضة عنهم رضي الله عنهم وأرضاهم كما هو موجود عن أسامة وعن أبيه.