ونقف عند العضباء، وهي القصواء نفسها، وهي الناقة -إذا صح التعبير- الرئيسة التي كانت تحمل النبي عليه الصلاة والسلام، وهي التي حملته في الهجرة، وحملته في يوم عرفة، وحملته في الحج، وهذه الناقة كانت لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي بقعود فسابق هذه الناقة وسبقها، فلما سبقها شق ذلك على الصحابة؛ لأن من أحب شيئاً أحب ما يتعلق به، فالصحابة لا يعنيهم أن قعوداً يسبق ناقة، ولكن شق عليهم وتغير حالهم لأن هذه الناقة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا جاء التأديب النبوي للأمة، وهذا من أعظم وسائل تربية الناس على التوحيد، أي: أن يربوا عملياً، فإن متون التوحيد مما دونه العلماء على جلالة قدرها أمر عظيم لا خلاف فيه، ولكنه لا يدرس التوحيد بشيء أحسن من بيان كيفية تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الأمة التوحيد، فلما سبقت الناقة وتغيرت وجوه الصحابة قال صلى الله عليه وسلم للصحابة:(حق على الله أنه ما ارتفع شيء في الدنيا إلا وضعه).
فهذا هو التوحيد، فالشمس والقمر فتنة للناس، ولذلك كتب الله على الشمس والقمر الكسوف والخسوف حتى يعلم أنهما مهما بلغتا قابلان للنقصان، ووجهه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك وجه أشد نوراً منه، ومع ذلك يشج وتكسر الرباعية وينزل الدم؛ لأنه مهما بلغ فهو وجه مخلوق، فكل من حولك من العظماء يريك الله جل وعلا فيهم آية تدل على أنهم بشر تجري عليهم أحكام البشر.
وانظر إلى جمع من الممثلين والممثلات ممن يوسمون بالجمال، فغالبهم يموت بمرض يشوه جماله، كان فتنة في زمانه لكثير من الصبايا والنساء، فلما قربت وفاته أتته أمراض حتى تغير وجهه، حتى إن أهله كانوا يخفون وجهه عن الناس، حتى مات ووري بجنازة مستورة حتى لا يرى الناس وجهه، بعد أن كان فتنة في السابق، فسنة الله في خلقه أن كل شيء مهما عظم يعتريه النقص، قال الله جل وعلا:{وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص:٨٨]، وقال سبحانه:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن:٢٦ - ٢٧].
فكل عظيم مهما ارتقى سينزل، ونبينا صلى الله عليه وسلم لما ساد الجزيرة ودخل مكة فاتحاً، وخطب الناس في خطبة الوداع وبلغ الأمر منتهاه مرض وأصابته الحمى وأصبح -وهو سيد الخلق الذي جاهد في أرجاء الجزيرة كلها- يعجز عن أن يصل إلى المسجد، وكان عليه الصلاة -وهو والسلام أفصح من نطق الضاد وأفصح الفصحاء وسيد البلغاء- يعجز عن أن يتكلم ويدعو لـ أسامة بصوت مرتفع، بل وصل إلى أنه يرى السواك ولا يستطيع أن يقول: أعطوني السواك، فسبحان ربنا الذي لا شيء مثله، ولا نظير له ولا ند، وهو الذي يرينا عظمته وجلاله وكماله وقدرته، وأنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، يرينا هذه الآية في كل غدوة ورواح، لكن المتعظين بتلك الآيات قليل، جعلني الله وإياكم من أولئك القليل.