ولما أخبره الصحابة بأن العرب أو الملوك والسلاطين والأمراء لا يقبلون إلا كتاباً مختوماً لم يعاند، وإنما اتخذ خاتماً من فضة فكتب فيه:(محمد رسول الله)، فجعل كملة (محمد) أسفل، وكلمة (رسول) في الوسط، وكلمة (الله) لفظ الجلالة في الأعلى، فأصبح الخاتم يقرأ من الأدنى: محمد رسول الله، ففي نفس خاتمه عليه الصلاة والسلام تأدب مع ربه جل وعلا، ولا يوجد أحد تأدب مع ربه تبارك وتعالى كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام متأدباً مع ربه يعرف لله قدره، وهذا واحد من أسباب كثيرة أفاءها الله عليه جعلته أعظم النبيين وأكمل الخلق صلوات الله وسلامه عليه.
ومن ذلك أنه لما عرج به إلى سدة المنتهى لم يلتفت يميناً ولا شمالاً، ولم ينظر في أي شيء إلا وفق ما يريه الله، فما أراه الله رآه، وما لم يره الله لم يتحرك إليه منه جارحة، ولذلك زكى الله بصره في القرآن، فقال الله في سورة النجم:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم:١٧]، أي: لم يتجاوز حدوده، وكان عليه الصلاة والسلام في كل حاله متأدباً مع ربه جل وعلا، فإذا كنت تريد الرفعة فالرفعة لها أسباب، ومن أعظمها الأدب مع الله جل وعلا، وما أورث أنبياء الله ورسله الناس شيئاً أعظم من أدبهم مع الله، فقد قال الله عن خليله إبراهيم:{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}[الشعراء:٧٥ - ٧٩] فلما ذكر المرض نسبه إلى نفسه، فقال:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء:٨٠]، ولم يقل: وإذا أمرضني.
تأدباً مع ربه تبارك وتعالى، ثم قال:{وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}[الشعراء:٨١]، فكل ذلك من كمال أدبهم مع ربهم جل وعلا.
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يخطب في صلاة الجمعة، فدخل رجل يشتكي جدب الديار وقلة الأمطار، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه يقول: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، فتكون السحاب بأمر الله وأمطر الناس أسبوعاً، ثم في يوم الجمعة الثانية دخل رجل من نفس الباب، فخاطب رسول الله يشكو كثرة السيول، حيث قطعت السبل وفرقت الناس وأضرت بالطرق، فلم يقل صلى الله عليه وسلم لربه: أمسك عنا رحمتك؛ لأنه يعلم أنها رحمة، بل قال:(اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) وجعل يشير بيديه، قال أنس: فوالله ما أشار إلى ناحية إلا اتجه السحاب إليها صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الأدب يغفل عنه كثير مع الناس، وكما حظي به النبيون حظي به الأتقياء عبر التاريخ كله، فقد قال الله عن الجن:{وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن:١٠]، فلما ذكروا الرشد نسبوه إلى الله فقالوا:((أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا))، ولما ذكروا الشر نسبوه إلى ما لم يسم فاعله، كما يقول النحويون، فقالوا:((وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ))، ولم ينسبوه إلى الله مع أن الله خالق الخير وخالق الشر.
وكذلك الخضر عليه السلام لما ذكر السفينة وعيبها قال -كما أخبر الله عنه-: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}[الكهف:٧٩]، وأسند العيب إلى نفسه.
ولما ذكر قصة الجدار قال:{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا}[الكهف:٨٢]، ولم يقل: فأردت، ولما ذكر العيب نسبه إلى نفسه فقال:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا}[الكهف:٧٩] وهذا كله مندرج ضمن أدب رسولنا صلى الله عليه وسلم مع ربه، وهو أعظم ما ينقل عنه ويتأسى به صلوات الله وسلامه عليه.