معقول ألاَّ يكون لصحابة النَّبِي الذين مَثَّلَهُمْ في التوراة والإنجيل - فضائل في جملتهم، وألاَّ يكون لبعضهم من الفضيلة والمِيزَةِ ما ليس للآخر، فَادِّعَاءُ أنَّ كُلَّ ما ورد في الفضائل، أو كُلَّ ما يشهد لفكرة أو رأي موضوع إفراط وإسراف في الحُكْم بغير دليل، وكذلك ادعاء أنَّ كُلَّ ما ورد في الفضائل ونحوها صحيح تفريط وتقصير في البحث، فلم يبق إِلاَّ الطريق الوسط العدل، وهو الطريق الذي يهتدي فيه الباحث بصحيح النقد وصريح العقل إلى التمييز بين الصحيح وغير الصحيح، وبيان المقبول من المردود، وهذا هو ما صنعه جهابذة الحديث وأئمة النقد في موقفهم من أحاديث الفضائل ونحوها.
٦ - لقد تحامل المؤلف تحاملاً لا يرتضيه المُنْصِفُونَ لذي دِينٍ وَخُلُقٍ على صحابي من صحابة رسول الله وهو أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، ونحن لا نَدَّعِي العصمة لأحد من البشر، حاشا الأنبياء، ولكنا نريد أنْ نُنَزِّلَ للناسَ منازلهم في الفضل والعلم، ولا نَحْجَرُ على العقول، فلكل باحث أنْ ينتقد ويبدي ما يشاء من آراء في حدود قواعد النقد الصحيحة، ولكنا نُحِبُّ للناقد أنْ يأخذ نفسه بأدب النقد، وأنْ يراعي النُّصْفَةَ، وأنْ يكون عفيف القول، كريم التعبير، مُتَرَفِّعاً عن الإسفاف، كما هو الشأن في العلماء، وقد كان سلفنا الصالح يختلفون ويتجادلون، ولكنَّهم كانوا يُحَلِّقُونَ في سماوات من العِفَّةِ وَالتَرَفُّعِ عن الهجر من القول، والإنصاف وعدم التَجَنِّي.
ولا أدري كيف استباح المؤلف لقلمه، فضلاً عن أدبه، أنْ يرمي أبا هريرة بكل جارحة من القول تعليقا على كلمة لسيدنا أبي هريرة قالها تَحَدُّثاً بنعمة الله (١)، قال المؤلف ما نصه ص ١٨٧:«ولقد اسْتَخَفَّهُ أَشَرُهُ وَزَهْوُهُ - يعني أبا هريرة - وَنَمَّ عليه أصله، ونحيزته، فخرج عن حدود الأدب والوقار! مع هذه السيدة الكريمة فكان يقول بعد هذا الزواج الذي ما كان يحلم به: إني كنت أجيراً لبُسْرَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ بطعام بطني، فكنت إذا ركبوا سقتُ بهم، وإذا نزلوا خدمتهم والآن تزوَّجتها، فأنا الآن أركب فإذا نزلت خدمتني ... إلخ».
(١) في " الإصابة " عن مُضَارِبْ قال: «كنتُ أسير من الليل فإذا رجل يُكَبِّرُ، فقلتُ: ما هذا؟ قال: كثر شكر الله على أنْ كنتُ أجيراً لبُسرة بنت غزوان» ثم ذكر القصة.