للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يُوجب اختلافه بِدَلِيل مَا ذكرنَا من الصُّور الثَّالِث انه يجوز اقْتِضَاء الذَّات الْوَاحِدَة لأمرين متنافيين بِحَسب شرطين متنافيين فيقتضى التبريد مثلا فِي مَحل معِين بِشَرْط معِين والتسخين فِي مَحل آخر بِشَرْط آخر والجسم فِي حيزه يَقْتَضِي السّكُون فَإِذا خرج عَن حيزه اقْتضى الْحَرَكَة وَاللَّحم يَقْتَضِي الصِّحَّة بِشَرْط سَلامَة الْبدن من الْحمى وَالْمَرَض الْمُمْتَنع مِنْهُ الْغذَاء وَيَقْتَضِي الْمَرَض بِشَرْط كَون الْجِسْم محموما وَنَحْوه ونظائر ذَلِك أَكثر من أَن تحصى فَإِن قيل مَحل النزاع أَن الْفِعْل لذاته أَو لوصف لَازم لَهُ يَقْتَضِي الْحسن والقبح والشرطان متنافيان يمْتَنع أَن يكون كل وَاحِد مِنْهُمَا وَصفا لَازِما لِأَن اللَّازِم يمْتَنع انفكاك الشَّيْء عَنهُ قيل معنى كَونه يَقْتَضِي الْحسن والقبح لذاته أَو لوصفه اللَّازِم أَن الْحسن ينشأ من ذَاته أَو من وَصفه بِشَرْط معِين والقبح ينشأ من ذَاته أَو من وَصفه بِشَرْط آخر فَإِذا عدم شَرط الِاقْتِضَاء أَو وجد مَانع يمْنَع الِاقْتِضَاء زَالَ الْأَمر الْمُتَرَتب بِحَسب الذَّات أَو الْوَصْف لزوَال شَرطه أَو لوُجُود مانعه وَهَذَا وَاضح جدا: الثَّالِث أَن قَوْلكُم يحسن الْكَذِب إِذا تضمن عصمَة نبى أَو مُسلم فَهَذَا فِيهِ طَرِيقَانِ أَحدهمَا لَا نسلم أَنه يحسن الْكَذِب فضلا عنأن يجب بل لَا يكون الْكَذِب إِلَّا قبيحا وَأما الَّذِي يحسن فالتعريض والتورية كَمَا وَردت بِهِ السّنة النَّبَوِيَّة وكما عرض إِبْرَاهِيم للْملك الظَّالِم بقوله هَذِه أُخْتِي لزوجته وكما قَالَ أَنِّي سقيم فَعرض بِأَنَّهُ سقيم قلبه من شركهم أَو سيسقم يَوْمًا مَا وكما فعل فِي قَوْله بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا فاسألوهم أَن كَانُوا ينطقون فَأن الْخَبَر والطلب كِلَاهُمَا مُعَلّق بِالشّرطِ وَالشّرط مُتَّصِل بهما وَمَعَ هَذَا فسماها ثَلَاث كذبات وَامْتنع بهَا من مقَام الشَّفَاعَة فَكيف يَصح دعواكم أَن الْكَذِب يجب إِذا تضمن عصمَة مُسلم مَعَ ذَلِك فَأن قيل كَيفَ سَمَّاهَا إِبْرَاهِيم كذبات وَهِي تورية وتعريض صَحِيح قيل لَا يلْزمنَا جَوَاب هَذَا السُّؤَال إِذا الْغَرَض أبطال استدلالكم وَقد حصل فَالْجَوَاب عَنهُ تبرع منا وتكميل للفائدة وَلم أجد فِي هَذَا الْمقَام للنَّاس جَوَابا شافيا يسكن الْقلب إِلَيْهِ وَهَذَا السُّؤَال لَا يخْتَص بِهِ طَائِفَة مُعينَة بل هُوَ وَارِد عَلَيْكُم بِعَيْنِه وَقد فتح الله الْكَرِيم بِالْجَوَابِ عَنهُ فَنَقُول الْكَلَام لَهُ نسبتان نِسْبَة إِلَى الْمُتَكَلّم وقصده وإرادته وَنسبَة إِلَى السَّامع وإفهام الْمُتَكَلّم إِيَّاه مضمونه فَإِذا أخبر الْمُتَكَلّم بِخَبَر مُطَابق للْوَاقِع وَقصد إفهام الْمُخَاطب فَهُوَ صدق من الْجِهَتَيْنِ وَأَن قصد خلاف الْوَاقِع وَقصد مَعَ ذَلِك إفهام الْمُخَاطب خلاف مَا قصد بل معنى ثَالِثا لَا هُوَ الْوَاقِع وَلَا هُوَ المُرَاد فَهُوَ كذب من الْجِهَتَيْنِ بالنسبتين مَعًا وَإِن قصد معنى مطابقا صَحِيحا وَقصد مَعَ ذَلِك التعمية على الْمُخَاطب وإفهامه خلاف مَا قَصده فَهُوَ صدق بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَصده كذب بِالنِّسْبَةِ إِلَى إفهامه وَمن هَذَا الْبَاب التورية والمعاريض وَبِهَذَا أطلق عَلَيْهَا إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام اسْم الْكَذِب مَعَ أَنه الصَّادِق فِي خَبره وَلم يخبر إِلَّا صدقا فَتَأمل هَذَا الْموضع الَّذِي أشكل على النَّاس وَقد ظهر بِهَذَا أَن الْكَذِب لَا يكون قطّ إِلَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>