للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سَببه ومقتضيه وَهَذَا فصل الْخطاب فِي هَذَا الْمقَام وَبِه يَزُول كل إِشْكَال فِي المسئلة وينقشع غيمها ويسفر صبحها وَالله الْمُوفق للصَّوَاب

وَاحْتج بَعضهم أَيْضا بِأَن قَالَ لَو كَانَ الْفِعْل حسنا لذاته لَا متنع الشَّارِع من نسخه قبل إِيقَاع الْمُكَلف لَهُ وَقبل تمكنه مِنْهُ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ حسنا لذاته فَهُوَ منشأ للْمصْلحَة الراجحة فَكيف ينْسَخ وَلم تحصل مِنْهُ تِلْكَ الْمصلحَة وَأجَاب الْمُعْتَزلَة عَن هَذَا بالتزامه وَمنعُوا النّسخ قبل وَقت الْفِعْل ونازعهم جُمْهُور هَذِه الْأمة فِي هَذَا الأَصْل وجوزوا وُقُوع النّسخ قبل حُضُور وَقت الْفِعْل ثمَّ انقسموا قسمَيْنِ فنفاة التحسين والتقبيح بنوه على أصلهم ومثبتو التحسين والتقبيح أجابوا عَن ذَلِك بِأَن الْمصلحَة كَمَا تنشأ من الْفِعْل فَأَنَّهَا أَيْضا قد تنشأ من الْعَزْم عَلَيْهِ وتوطين النَّفس على الِامْتِثَال وَتَكون الْمصلحَة الْمَطْلُوبَة هِيَ الْعَزْم وتوطين النَّفس لَا إِيقَاع الْفِعْل فِي الْخَارِج فَإِذا أَمر الْمُكَلف بِأَمْر فعزم عَلَيْهِ وتهيأ لَهُ ووطن نَفسه على امتثاله فحصلت الْمصلحَة المرادة مِنْهُ لم يمْتَنع نسخ الْفِعْل وَإِن لم يوقعه لِأَنَّهُ لَا مصلحَة لَهُ فِيهِ وَهَذَا كأمر إِبْرَاهِيم الْخَلِيل بِذبح وَلَده فَإِن الْمصلحَة لم تكن فِي ذبحه وَإِنَّمَا كَانَت فِي استسلام الْوَالِد وَالْولد لأمر الله وعزمهما عَلَيْهِ وتوطينهما أَنفسهمَا على امتثاله فَلَمَّا حصلت هَذِه الْمصلحَة بَقِي الذّبْح مفْسدَة فِي حَقّهمَا فنسخه الله وَرَفعه وَهَذَا هُوَ الْجَواب الْحق الشافي فِي المسئلة وَبِه تتبين الْحِكْمَة الباهرة فِي إِثْبَات مَا أثْبته الله من الْأَحْكَام وَنسخ مَا نسخه مِنْهَا بعد وُقُوعه وَنسخ مَا نسخ مِنْهَا قبل إِيقَاعه وَأَن لَهُ فِي ذَلِك كُله من الحكم الْبَالِغَة مَا تشهد لَهُ بِأَنَّهُ احكم الْحَاكِمين وَأَنه اللَّطِيف الْخَبِير الَّذِي بهرت حكمته الْعُقُول فَتَبَارَكَ الله رب الْعَالمين

وَمِمَّا احْتج بِهِ النفاة أَيْضا أَنه لَو حسن الْفِعْل أَو قبح لغير الطّلب لم يكن تعلق الطّلب لنَفسِهِ لتوقفه على أَمر زَائِد

وَتَقْرِير هَذِه الْحجَّة ان حسن الْفِعْل وقبحه لَا يجوز ان يكون لغير نفس الطّلب بل لَا معنى لحسنه إِلَّا كَونه مَطْلُوبا للشارع أيجاده وَلَا لقبحه إِلَّا كَونه مَطْلُوبا لَهُ إعدامه لِأَنَّهُ لَو حسن وقبح لِمَعْنى غير الطّلب الشَّرْعِيّ لم يكن الطّلب مُتَعَلقا بالمطلوب لنَفسِهِ بل كَانَ التَّعَلُّق لأجل ذَلِك الْمَعْنى فَيتَوَقَّف الطّلب على حُصُول الِاعْتِبَار الزَّائِد على الْفِعْل وَهَذَا بَاطِل لِأَن التَّعَلُّق نِسْبَة بَين الطّلب وَالْفِعْل وَالنِّسْبَة بَين الْأَمريْنِ لَا تتَوَقَّف إِلَّا على حصولهما فَإِذا حصل الْفِعْل تعلق الطّلب بِهِ سَوَاء حصل فِيهِ اعْتِبَار زَائِد على ذَاته أَولا فَإِن قُلْتُمْ الطّلب وَأَن لم يتَوَقَّف إِلَّا على الْفِعْل الْمَطْلُوب وَالْفَاعِل الْمَطْلُوب مِنْهُ لَكِن تعلقه بِالْفِعْلِ مُتَوَقف على جِهَة الْحسن والقبح الْمُقْتَضِي لتَعلق الطّلب بِهِ قُلْنَا الطّلب قديم والجهة الْمُوجبَة لِلْحسنِ والقبح حَادِثَة وَلَا يَصح توقف الْقَدِيم على الْحَادِث وسر الدَّلِيل أَن تعلق الطّلب بِالْفِعْلِ ذاتي فَلَا يجوز أَن يكون مُعَللا بِأَمْر زَائِد على الْفِعْل إِذْ لَو كَانَ تعلقه بِهِ مُعَللا لم يكن ذاتيا وَهَذَا وَجه تَقْرِير هَذِه الشُّبْهَة وان كَانَ كثير من شرَّاح الْمُخْتَصر لم يفهموا تقريرها على هَذَا الْوَجْه فقرروها على وَجه

<<  <  ج: ص:  >  >>