أَن يكون مَقْرُونا بالأخص ومثاله نفرة نفس الَّذِي نهشته الْحَيَّة عَن الْحَبل المرقش اللَّوْن لِأَنَّهُ وجد الْأَذَى مَقْرُونا بِهَذِهِ الصُّورَة فَتوهم أَن هَذِه الصُّورَة مقرونة بالأذى وَكَذَلِكَ ينفر عَن الْعَسَل إِذا شبهه بالعذرة لِأَنَّهُ وجد الاستقذار مَقْرُونا بالرطب الْأَصْفَر فَتوهم أَن الرطب الْأَصْفَر يقْتَرن بِهِ الاستقذار وَقد يغلب عَلَيْهِ الْوَهم حَتَّى يتَعَذَّر الْأكل وَأَن كَانَ حكم الْعقل يكذب الْوَهم وَلَكِن خلقت قوى النَّفس مطيعة للأوهام وَأَن كَانَت كَاذِبَة حَتَّى أَن الطَّبْع ينفر عَن حسناء سميت باسم الْيَهُود إِذْ وجد الِاسْم مَقْرُونا بالقبح فَظن أَن الْقبْح أَيْضا يلازم الِاسْم وَلِهَذَا يُورد على بعض الْعَوام مسئلة عقلية جلية فيقبلها فَإِذا قلت هَذَا مَذْهَب الاشعري أَو المعتزلي أَو الظَّاهِرِيّ أَو غَيره نفر عَنهُ أَن كَانَ سيء الِاعْتِقَاد فِيمَن نسبتها إِلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا طبع الْعَاميّ بل طبع أَكثر الْعُقَلَاء المتوسمين بِالْعلمِ إِلَّا الْعلمَاء الراسخين الَّذين أَرَاهُم الله الْحق حَقًا وقواهم على إتباعه وَأكْثر الْخلق ترى نُفُوسهم مطيعة للأوهام الكاذبة مَعَ علمهمْ بكذبها وَأكْثر أَقْدَام الْخلق وإحجامهم بِسَبَب هَذِه الأوهام فَأن الْوَهم عَظِيم الِاسْتِيلَاء وَكَذَلِكَ ينفر طبع الْإِنْسَان عَن الْمبيت فِي بَيت فِيهِ ميت مَعَ قِطْعَة بِأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّك وَلكنه يتَوَهَّم فِي كل سَاعَة حركته ونطقه قَالُوا فَإِذا انْتَبَهت لهَذِهِ المثارات عرفت بهَا سر القضايا الَّتِي تستحسنها الْعُقُول وسر استحسانها إِيَّاهَا والقضايا الَّتِي تستقبحها الْعُقُول وسر استقباحها لَهَا ولنضرب لذَلِك مثلين وهما مِمَّا يحْتَج بهما علينا أهل الْإِثْبَات
الْمثل الأول الْملك الْعَظِيم المستولي على الأقاليم إِذا رأى ضَعِيفا مشرفا على الْهَلَاك فَإِنَّهُ يمِيل إِلَى إنقاذه ويستحسنه وَأَن كَانَ لَا يعْتَقد أصل الدّين لينتظر ثَوابًا أَو مجازاة وَلَا سِيمَا إِذا لم يعرفهُ الْمِسْكِين وَلم يره بِأَن كَانَ أعمى أَصمّ لَا يسمع الصَّوْت وَأَن كَانَ لَا يُوَافق ذَلِك غَرَضه بل رُبمَا يتعب بِهِ بل يحكم الْعُقَلَاء بِحسن الصَّبْر على السَّيْف إِذا أكره على كلمة الْكفْر أَو على إفشاء السِّرّ وَنقض الْعَهْد وَهُوَ على خلاف غَرَض الْكَفَرَة وعَلى الْجُمْلَة فاستحسان مَكَارِم الْأَخْلَاق وإفاضة النعم لَا يُنكره إِلَّا من عاند الْمثل الثَّانِي الْعَاقِل إِذا سنحت لَهُ حَاجَة وَأمكن قَضَاؤُهَا بِالصّدقِ كَمَا أمكن بِالْكَذِبِ بِحَيْثُ تَسَاويا فِي حُصُول الْغَرَض مِنْهُمَا كل التَّسَاوِي فَإِنَّهُ يُؤثر الصدْق ويختاره ويميل إِلَيْهِ طبعه وَمَا ذَاك إِلَّا لحسنه فلولا أَن الْكَذِب على صفة يجب عِنْده الِاحْتِرَاز عَنهُ وَإِلَّا لما ترجح الصدْق عِنْده قَالُوا وَهَذَا الْغَرَض وَاضح فِي حق من أنكر الشَّرَائِع وَفِي حق من لم تبلغه الدعْوَة حَتَّى لَا يلزموننا كَون التَّرْجِيح بالتكليف فَهَذَا من حججهم وَنحن نجيب عَن ذَلِك فَتبين أَنه لَا يثبت حكم على هذَيْن المثالين فَنَقُول أما قَضِيَّة إنقاذ الْملك وَحسنه حَتَّى فِي حق من لم تبلغه الدعْوَة وَأنكر الشَّرَائِع فسببه دفع الْأَذَى الَّذِي يلْحق الْإِنْسَان من رقة الْقلب وَهُوَ طبع يَسْتَحِيل الأنفكاك عَنهُ وَذَلِكَ لِأَن الْإِنْسَان يقدر نَفسه فِي تِلْكَ البلية وَيقدر غَيره معرضًا عَن الإنقاذ فيستقبحه مِنْهُ لمُخَالفَة غَرَضه فَيَعُود وَيقدر ذَلِك الاستقباح من المشرف على الْهَلَاك فِي حق نَفسه فَيدْفَع عَن نَفسه ذَلِك الْقبْح
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute