للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَو عذب أهل سماواته وأرضه لَكَانَ ذَلِك تعذيبا لحقه عَلَيْهِم وَكَانُوا إِذْ ذَاك مستحقين للعذاب لِأَن أَعْمَالهم لَا تفي بنجاتهم كَمَا قَالَ النَّبِي لن يُنجى أحدا مِنْكُم عمله قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ وَفضل فرحمته لَهُم لَيست فِي مُقَابلَة أَعْمَالهم وَلَا هِيَ ثمنا لَهَا فَإِنَّهَا خير مِنْهَا كَمَا قَالَ فِي الحَدِيث نَفسه وَلَو رَحِمهم لكَانَتْ رَحمته لَهُم خيرا لَهُم من أَعْمَالهم أَي فَجمع بَين الْأَمريْنِ فِي الحَدِيث أَنه لَو عذبهم لعذبهم باستحقاقهم وَلم يكن ظَالِما لَهُم وَأَنه لَو رَحِمهم لَكَانَ ذَلِك مُجَرّد فَضله وَكَرمه لَا بأعمالهم إِذْ رَحمته خير من أَعْمَالهم فصلوات الله وَسَلَامه على من خرج هَذَا الْكَلَام أَولا من شَفَتَيْه فانه أعرف الْخلق بِاللَّه وبحقه وأعلمهم بِهِ وبعدله وفضله وحكمته وَمَا يسْتَحقّهُ على عباده وطاعات العَبْد كلهَا لَا تكون مُقَابلَة لنعم الله عَلَيْهِم وَلَا مُسَاوِيَة لَهَا بل وَلَا للقليل مِنْهَا فَكيف يسْتَحقُّونَ بهَا على الله النجَاة وَطَاعَة الْمُطِيع لَا نِسْبَة لَهَا إِلَى نعْمَة من نعم الله عَلَيْهِ فَتبقى سَائِر النعم تتقاضاه شكرا وَالْعَبْد لَا يقوم بمقدوره الَّذِي يجب لله عَلَيْهِ فَجَمِيع عباده تَحت عَفوه وَرَحمته وفضله فَمَا نجا مِنْهُم أحدا إِلَّا بعفوه ومغفرته وَلَا فَازَ بِالْجنَّةِ إِلَّا بفضله وَرَحمته وَإِذا كَانَت هَذِه حَال الْعباد فَلَو عذبهم لعذبهم وَهُوَ غير ظَالِم لَهُم لَا لكَونه قَادِرًا عَلَيْهِم وهم ملكه بل لاستحقاقهم وَلَو رَحِمهم لَكَانَ ذَلِك بفضله لَا بأعمالهم

وَأما قَوْله فانهم عِبَادك فَلَيْسَ المُرَاد بِهِ أَنَّك قَادر عَلَيْهِم مَالك لَهُم وَأي مدح فِي هَذَا وَلَو قلت لشخص أَن عذبت فلَانا فانك قَادر على ذَلِك أَي مدح يكون فِي ذَلِك بل فِي ضمن ذَلِك الْأَخْبَار بغاية الْعدْل وَأَنه تَعَالَى أَن عذبهم فانهم عباده الَّذين أنعم عَلَيْهِم بإيجادهم وخلقهم ورزقهم وإحسانه إِلَيْهِم لَا بوسيلة مِنْهُم وَلَا فِي مُقَابلَة بذل بذلوه بل ابتدأهم بنعمه وفضله فَإِذا عذبهم بعد ذَلِك وهم عبيده لم يعذبهم إِلَّا بجرمهم واستحقاقهم وظلمهم فان من أنعم عَلَيْهِم ابْتِدَاء بجلائل النعم كَيفَ يعذبهم بِغَيْر اسْتِحْقَاق أعظم النقم

وَفِيه أَيْضا أَمر آخر ألطف من هَذَا وَهُوَ أَن كَونهم عباده يَقْتَضِي عِبَادَته وَحده وتعظيمه واجلاله كَمَا يجل العَبْد سَيّده ومالكه الَّذِي لَا يصل إِلَيْهِ نفع إِلَّا على يَده وَلَا يدْفع عَنهُ ضرا إِلَّا هُوَ فَإِذا كفرُوا بِهِ أقبح الْكفْر وأشركوا بِهِ أعظم الشّرك ونسبوه إِلَى كل نقيصة مِمَّا تكَاد السَّمَوَات يتفطرن مِنْهُ وتنشق الأَرْض وتخر الْجبَال هدا كَانُوا أَحَق عباده وأولاهم بِالْعَذَابِ وَالْمعْنَى هم عِبَادك الَّذين أشركوا بك وَعدلُوا بك وجحدوا حَقك فهم عباد مستحقون للعذاب وَفِيه أَمر آخر أَيْضا لَعَلَّه ألطف مِمَّا قبله وَهُوَ أَن تُعَذبهُمْ فانهم عِبَادك وشأن السَّيِّد المحسن الْمُنعم أَن يتعطف على عَبده ويرحمه ويحنو عَلَيْهِ فَإِن عذبت هَؤُلَاءِ وهم عبيدك لَا تُعَذبهُمْ إِلَّا باستحقاقهم وإجرامهم وَألا فَكيف يشقى العَبْد بسيده وَهُوَ مُطِيع لَهُ مُتبع لمرضاته فَتَأمل هَذِه الْمعَانِي ووازن بَينهَا وَبَين قَوْله من يَقُول أَن تُعَذبهُمْ فَأَنت الْملك الْقَادِر وهم

<<  <  ج: ص:  >  >>