وَلَا يكون لكسوف الشَّمْس لبث لِأَن قَاعِدَة المخروط الْمُتَّصِل بالشمس مسَاوٍ لقطريها فَكَمَا ابْتَدَأَ الْقَمَر بالحركة بعد تَمام الموازاة بَينه وَبَين الشَّمْس تحرّك المخروط وابتدأت الشَّمْس بالإسفار إِلَّا أَن كسوف الشَّمْس يخْتَلف باخْتلَاف أوضاع المساكن حَتَّى أَنه يرى فِي بَعْضهَا وَلَا يرى فِي بَعْضهَا وَيرى فِي بَعْضهَا أقل وَفِي بَعْضهَا أَكثر بِسَبَب اخْتِلَاف المنظر إِذْ الكاسف لَيْسَ عارضا فِي جرم الشَّمْس يستوى فِيهِ النظار من جَمِيع الْأَمَاكِن بل الكاسف شَيْء متوسط بَينهَا وَبَين الْأَبْصَار وَهُوَ قريب مِنْهَا والمحجوب عَنَّا بعيد فيختلف التَّوَسُّط باخْتلَاف مَوَاضِع الناظرين وَكَذَلِكَ يخْتَلف كسوف الشَّمْس فِي مباديها وَعند انجلائها فِي كمية مَا ينكسف مِنْهَا وَفِي زمَان كسوفها الَّذِي هُوَ من أول البدو إِلَى وسط الْكُسُوف وَمن وسط الْكُسُوف إِلَى آخر الانجلاء
فَإِن قيل فجرم الْقَمَر أَصْغَر من جرم الشَّمْس بِكَثِير فَكيف يحجب عَنَّا كل الشَّمْس قيل إِنَّمَا يحجب عَنَّا جرم الشَّمْس لقُرْبه منا وَبعدهَا عَنَّا لِأَن الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِفين فِي الصغر وَالْكبر إِذا قرب الصَّغِير من الْكَبِير يرى من أَطْرَاف الْكَبِير أَكثر مَا يرى مِنْهَا مَعَ بعد الْأَصْغَر عَنهُ وَكلما بعد الْأَصْغَر عَنهُ وازداد قربه من النَّاظر تناقص مَا يرى من أَطْرَاف الْأَكْبَر إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى حد لَا يرى من الْأَكْبَر شَيْء والحس شَاهد بذلك
وَأما سَبَب خُسُوف الْقَمَر فَهُوَ توَسط الأَرْض بَينه وَبَين الشَّمْس حَتَّى يصير الْقَمَر مَمْنُوعًا من اكْتِسَاب النُّور من الشَّمْس وَيبقى ظلام ظلّ الأَرْض فِي مَمَره لِأَن الْقَمَر لَا ضوء لَهُ أبدا وَأَنه يكْتَسب الضَّوْء من الشَّمْس وَهل هَذَا الِاكْتِسَاب خَاص بالقمر أم يُشَارِكهُ فِيهِ سَائِر الْكَوَاكِب فَفِيهِ قَولَانِ لأرباب الْهَيْئَة: أَحدهمَا أَن الشَّمْس وَحدهَا هِيَ المضيئة بذاتها وَغَيرهَا من الْكَوَاكِب مستضيئة بضيائها على سَبِيل الْعرض كَمَا عرف ذَلِك فِي الْقَمَر وَالْقَوْل الثَّانِي أَن الْقَمَر مَخْصُوص بالكمودة دون سَائِر الْكَوَاكِب وَغَيره من الْكَوَاكِب مضيئة بذاتها كَالشَّمْسِ ورد هَؤُلَاءِ على ارباب القَوْل الأول بِأَن الْكَوَاكِب لَو استفادت أضواءها من الشَّمْس لاختلف مقادير تِلْكَ الأضواء فِيمَا كَانَ تَحت فلك الشَّمْس مِنْهَا بِسَبَب الْقرب والبعد من الشَّمْس كَمَا فِي الْقَمَر فَإِنَّهُ يخْتَلف ضوؤه بِحَسب قربه وَبعده من الشَّمْس
وَالَّذِي حمل أَرْبَاب القَوْل الأول عَلَيْهِ مَا وجدوه من تعلق حركات الْكَوَاكِب بحركات الشَّمْس وظنوا أَن ضوءها من ضيائها وَلَيْسَ الْغَرَض اسْتِيفَاء الْحجَّاج من الْجَانِبَيْنِ وَمَا لكل قَول وَعَلِيهِ وَالْمَقْصُود ذكر سَبَب الخسوف القمرى وَلما كَانَت الأَرْض جسما كثيفا فَإِذا أشرقت الشَّمْس على جَانب مِنْهَا فَإِنَّهُ يَقع لَهَا ظلّ فِي الْجِهَة الْأُخْرَى لِأَن كل ذِي ظلّ يَقع فِي الْجِهَة الْمُقَابلَة للجرم المضىء فَمَتَى أشرقت عَلَيْهَا من نَاحيَة الشرق وَقعت أظلالها فِي نَاحيَة الغرب وَإِذا وَقعت عَلَيْهَا من نَاحيَة الغرب مَالَتْ أظلالها إِلَى نَاحيَة الْمشرق وَالْأَرْض