للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ; لِأَنَّ الْحَرَمَ يُسَمَّى عَلَى الْإِطْلَاقِ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَأَوَّلَهُ غَيْرُهُمْ عَلَيْهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ مَا رَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ اتَّخَذْت مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} ثُمَّ صَلَّى فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ الْمَقَامِ هُوَ الْحَجَرُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرُهُ تَعَالَى إيَّانَا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ لِلصَّلَاةِ تَعَلُّقٌ بِالْحَرَمِ وَلَا سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ عَلَيْهَا مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ، وَهَذَا الْمَقَامُ دَلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَنُبُوَّةِ إبْرَاهِيمَ; لِأَنَّهُ جَعَلَ لِلْحَجَرِ رُطُوبَةَ الطِّينِ حَتَّى دَخَلَتْ قَدَمُهُ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ; وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَلَّ عَلَى نُبُوَّتِهِ.

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ بقوله {مُصَلّىً} فَقَالَ فِيهِ مُجَاهِدٌ: مُدَّعًى وَجَعَلَهُ مِنْ الصَّلَاةِ; إذْ هِيَ الدُّعَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: ٥٦] . وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ بِهِ قِبْلَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا عِنْدَهُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ; لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ إذَا أُطْلِقَ تُعْقَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ الْمَفْعُولَةُ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُصَلَّى الْمِصْرِ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ؟ وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: "الْمُصَلَّى أَمَامَك" يَعْنِي بِهِ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ الْمَفْعُولَةِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ تِلَاوَتِهِ الْآيَةَ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ قِبْلَةٌ فَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى مَعْنَى الصَّلَاةِ; لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْعَلُهُ الْمُصَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَيَكُونُ قِبْلَةً لَهُ، وَعَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا الدُّعَاءُ، فَحَمْلُهُ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْلَى; لِأَنَّهَا تَنْتَظِمُ سَائِرَ الْمَعَانِي الَّتِي تَأَوَّلُوا عَلَيْهَا الْآيَةَ.

قَوْله تَعَالَى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} قَالَ قَتَادَةُ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: طَهِّرَا مِنْ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُشْرِكُونَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي يَدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه لَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَهُمْ قَدْ نَصَبُوا عَلَى الْبَيْتِ الْأَوْثَانَ فَأَمَرَ بِكَسْرِهَا وَجَعَلَ يَطْعَنُ فِيهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} . وَقِيلَ فِيهِ: طَهِّرَاهُ مِنْ فَرْثٍ وَدَمٍ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطْرَحُونَهُ عِنْدَهُ وَقَالَ السُّدِّيُّ: {طَهِّرَا بَيْتِيَ} : ابْنِيَاهُ عَلَى الطَّهَارَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} [التوبة: ١٠٩] الْآيَةَ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ غَيْرَ مُنَافِيهِ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: "ابْنِيَاهُ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَطَهِّرَاهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْفَرْثِ وَالدَّمِ وَمِنْ الْأَوْثَانِ أَنْ تُجْعَلَ فِيهِ أَوْ تَقْرَبَهُ".

وَأَمَّا "الطَّائِفِينَ" فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مُرَادِ الْآيَةِ مِنْهُ، فَرَوَى جويبر عن الضحاك قال:

<<  <  ج: ص:  >  >>