بَابُ مِقْدَارُ الْوَصِيَّةِ الْجَائِزَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْوَصِيَّةِ بِقَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ; لِأَنَّهَا مَنْكُورَةٌ لَا تَخْتَصُّ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ; إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْوَصِيَّةُ بِبَعْضِ الْمَالِ لَا بِجَمِيعِهِ, وَهُوَ: قَوْله تَعَالَى {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} فَأَطْلَقَ إيجَابَ الْمِيرَاثِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ, فَلَوْ اقْتَضَى قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَصَارَ قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} مَنْسُوخًا بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ, فَلَمَّا كَانَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتًا فِي إيجَابِ الْمِيرَاثِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا مَعَ آيَةِ الْوَصِيَّةِ, فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى بَعْضِ الْمَالِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ حَتَّى نَكُونَ مُسْتَعْمِلِينَ لِحُكْمِ الْآيَتَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} يَعْنِي فِي مَنْعِ الرَّجُلِ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ تَأْوِيلِهِ; فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِبَعْضِ الْمَالِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَيَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ تَلَقَّتْهَا الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالِاسْتِعْمَالِ فِي الِاقْتِصَارِ بِجَوَازِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الثُّلُثِ, مِنْهَا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرِضَ أَبِي مَرَضًا شَدِيدًا قَالَ ابْنُ أَبِي خَلَفٍ بِمَكَّةَ مَرَضًا أَشْفَى مِنْهُ, فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي, أَفَأَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: "لَا" قَالَ: فَبِالشَّطْرِ؟ "قَالَ: "لَا" قال: فبالثلث؟ قال: "لثلث وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ وَإِنَّك إنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فَإِنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إلَّا أُجِرْت عَلَيْهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إلَى فِي امْرَأَتِك" قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي؟ قَالَ "إنَّك إنْ تُخَلَّفْ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلًا تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ لَا تَزْدَادُ بِهِ إلَّا رِفْعَةً وَدَرَجَةً, لَعَلَّك أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِك آخَرُونَ" ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ", لَكِنْ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرَ ضُرُوبًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْفَوَائِدِ, منها: أن الوصية
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute