للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مطلب: النذر على ثلاثة أنحاء]

فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ يَمِينًا أَوْ نَذْرًا أَوْ شَرْطًا لِغَيْرِهِ الْوَفَاءُ بِشَرْطِهِ وَيَكُونُ عَقْدُهُ لِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ يَلْزَمُهُ مَا شَرَطَهُ وَأَوْجَبَهُ؟ قِيلَ لَهُ: أَمَّا النُّذُورُ فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: مِنْهَا نَذْرُ قُرْبَةٍ, فَيَصِيرُ وَاجِبًا بِنَذْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِعْلُهُ قُرْبَةً غَيْرَ وَاجِبٍ, لِقَوْلِهِ تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} , وقَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: ٩١] وقَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: ٧] , وقَوْله تَعَالَى: {"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٣] , وقَوْله تَعَالَى: {"وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: ٧٥, ٧٦] فَذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْمَنْذُورِ نَفْسَهُ; وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: "أَوْفِ بِنَذْرِك" حِينَ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا سَمَّاهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَفِيَ بِهِ, وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّهِ١ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ" ; فَهَذَا حُكْمُ مَا كَانَ قُرْبَةً مِنْ الْمَنْذُورِ فِي لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ بِعَيْنِهِ وَقِسْمٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا كَانَ مُبَاحًا غَيْرَ قُرْبَةٍ, فَمَتَى نَذَرَهُ لَا يَصِيرُ وَاجِبًا وَلَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ, فَإِذَا أَرَادَ بِهِ يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ, مِثْلُ قَوْلِهِ: "لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُكَلِّمَ زَيْدًا وَأَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ وَأَمْشِيَ إلَى السُّوقِ" فَهَذِهِ أُمُورٌ مُبَاحَةٌ لَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ; لِأَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْقُرَبِ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِالْإِيجَابِ, كَمَا أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ لَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ; فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: نَذْرُ الْمَعْصِيَةِ, نَحْوَ أَنْ يَقُولَ: "لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا أَوْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ أَوْ أَغْصِبَ فُلَانًا مَالَهُ" فَهَذِهِ أُمُورٌ هِيَ مَعَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا لِأَجْلِ النَّذْرِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحَظْرِ, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي إيجَابِ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ مِنْ المباحات


١ قوله: "ونذر نذرا لم يسمه" هو عند مالك وأكثرين على النذر المطلق كقوله على نذر كما ذكره العلقمي, "لمصححه".

<<  <  ج: ص:  >  >>