[باب الرجل يموت وعليه دين ويوصي بوصية]
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَرُوِيَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: "تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ, وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أَنَّ الْمِيرَاثَ بَعْدَ هَذَيْنِ, وَلَيْسَتْ" أَوْ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَحَدِهِمَا بَلْ قَدْ تَنَاوَلْتُهُمَا جَمِيعًا, وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} مُسْتَثْنًى عَنْ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ, وَمَتَى دَخَلَتْ "أَوْ" عَلَى النَّفْيِ صَارَتْ فِي مَعْنَى" الْوَاوِ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: ٢٤] وَقَالَ تَعَالَى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: ١٤٦] فَكَانَتْ" أَوْ" فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَنْزِلَةِ" الْوَاوِ" فَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: إلَّا أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ وَصِيَّةٌ أَوْ دَيْنٌ فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ بَعْدَهُمَا جَمِيعًا. وَتَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الذِّكْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلتَّبْدِئَةِ بِهَا عَلَى الدَّيْنِ; لِأَنَّ "أَوْ" لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ, وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ الْمِيرَاثِ إعْلَامًا لَنَا أَنَّ سِهَامَ الْمَوَارِيثِ جَارِيَةٌ فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَعَزْلِ حِصَّةِ الْوَصِيَّةِ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ كَانَتْ سِهَامُ الْوَرَثَةِ مُعْتَبَرَةً بَعْدَ الثُّلُثِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ أَوْ الثُّمُنُ فِي الثُّلُثَيْنِ؟ وَكَذَلِكَ سِهَامُ سَائِرِ أَهْلِ الْمِيرَاثِ جَارِيَةٌ فِي الثُّلُثَيْنِ دُونَ الثُّلُثِ الَّذِي فِيهِ الْوَصِيَّةُ. فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ ذِكْرِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ لِيُعَلِّمَنَا أَنَّ سِهَامَ الْمِيرَاثِ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ كَمَا هِيَ مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ مُخَالِفَةً لِلدَّيْنِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ; لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ لَدَخَلَ النُّقْصَانُ عَلَى أَصْحَابِ الْوَصَايَا كَمَا يَدْخُلُ عَلَى الْوَرَثَةِ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ; لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ اُسْتُوْفِيَ الدَّيْنُ كُلُّهُ مِنْ الْبَاقِي وَإِنْ اسْتَغْرَقَهُ وَبَطَلَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا, فَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ مِنْ وَجْهٍ وَيَأْخُذُ شَبَهًا مِنْ الْغَرِيمِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ, وَهُوَ أَنَّ سهام أهل المواريث معتبرة بعد
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute