للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مطلب: من أراد قلع سنك فلك قتله إلى آخره]

قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي اللِّصِّ يَنْقُبُ الْبُيُوتَ: يَسَعُك قَتْلُهُ, لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" وَلَا يَكُونُ شَهِيدًا إلَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِالْقِتَالِ إنْ أَمْكَنَهُ فَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ إيجَابَ قَتْلِهِ إذَا قَدَرِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَيْضًا فِي رَجُلٍ يُرِيدُ قَلْعَ سِنِّك, قَالَ فَلَكَ أَنْ تَقْتُلَهُ إذَا كُنْت فِي مَوْضِعٍ لَا يُعِينُك النَّاسُ عَلَيْهِ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ لِأَنَّ قَلْعَ السِّنِّ أَعْظَمَ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ, فَإِذَا جَازَ قَتْلُهُ لِحِفْظِ مَالِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْقَتْلِ مِنْ أَجْلِهَا.

قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُود وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: "إثْمُ قَتْلِي وَإِثْمُك الَّذِي كَانَ مِنْك قَبْلَ قَتْلِي". وَقَالَ غَيْرُهُمْ: "إثْمُك الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُك". وَالْمُرَادُ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِعِقَابِ إثْمِي وَإِثْمِك; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ حَقِيقَةَ الْإِثْمِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إرَادَةُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهَا. وَمَعْنَى" تَبُوءَ" تَرْجِعُ, يُقَالُ: بَاءَ, إذَا رَجَعَ إلَى الْمَبَاءَةِ وَهِيَ الْمَنْزِلُ, وَبَاءُوا بِغَضَبِ اللَّهِ: رَجَعُوا, وَالْبَوَاءُ: الرُّجُوعُ بِالْقَوَدِ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَمْرِ بَوَاءٌ أَيْ سَوَاءٌ; لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِيهِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.

قَوْله تَعَالَى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} . قَالَ مُجَاهِدٌ: "شَجَّعَتْهُ نَفْسُهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ". وَقَالَ قَتَادَةُ: "زَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ". وَقِيلَ: "سَاعَدَتْهُ نَفْسُهُ عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ". وَالْمَعْنَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّهُ فَعَلَهُ طَوْعًا مِنْ نَفْسِهِ غَيْرَ مُتَكَرِّهٍ لَهُ, وَيُقَالُ إنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: طَاعَ لِهَذِهِ الظَّبْيَةِ أُصُولُ الشَّجَرِ, وَطَاعَ لِفُلَانٍ كَذَا, أَيْ أَتَاهُ طَوْعًا. وَيُقَالُ: انْطَاعَ بِمَعْنَى انْقَادَ; وَيُقَالُ: طَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ, وَلَا يُقَالُ أَطَاعَتْهُ نَفْسُهُ, عَلَى هَذَا الْمَعْنَى; لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: "أَطَاعَ" يَقْتَضِي قَصْدًا مِنْهُ لِمُوَافَقَةِ مَعْنَى الْأَمْرِ, وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي نَفْسِهِ; وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّوْعُ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَمْرًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ آمِرًا لِنَفْسِهِ وَلَا نَاهِيًا لَهَا; إذْ كَانَ مَوْضُوعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِمَّنْ هُوَ أَعْلَى لِمَنْ دُونَهُ; وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَنْ يُوصَفَ بِفِعْلٍ يَتَنَاوَلُهُ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ: "حَرَّكَ نَفْسَهُ" وَ" قَتَلَ نَفْسَهُ" كَمَا يُقَالُ: "حَرَّكَ غَيْرَهُ" وَ" قَتَلَ غيره".

قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يَعْنِي خَسِرَ نَفْسَهُ بِإِهْلَاكِهِ إيَّاهَا, لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: ١٥] ولا

<<  <  ج: ص:  >  >>