للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَاب الْقَوْلِ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} .

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفْ السَّلَفُ مِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {خَيْراً} أَرَادَ بِهِ مَالًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الْمُرَادِ بِالْمَالِ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ فِيهِ حِينَ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ فرضا; لِأَنَّ قَوْلَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: ١٨٣] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء: ١٠٣] يَعْنِي فَرْضًا مُوَقَّتًا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَوْلًى لَهُ فِي مَرَضِهِ وَلَهُ سَبْعُ مِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتُّ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ: أَلَا أُوصِي؟ قَالَ: لَا، إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} وَلَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مَالٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَصِيَّةَ فِي ثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي امْرَأَةٍ أَرَادَتْ الْوَصِيَّةَ فَمَنَعَهَا أَهْلُهَا، وَقَالُوا: لَهَا وَلَدٌ، وَمَالُهَا يَسِيرٌ، فَقَالَتْ: كَمْ وَلَدُهَا؟ قَالُوا: أَرْبَعَةٌ، قَالَتْ: فَكَمْ مَالُهَا؟ قَالُوا: ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَكَأَنَّهَا عَذَرَتْهُمْ، وَقَالَتْ: مَا فِي هَذَا الْمَالِ فَضْلٌ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَى خَمْسِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَرَوَى هَمَّامٌ عَنْ قتادة {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} قَالَ: كَانَ يُقَالُ: خَيْرُ الْمَالِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هِيَ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَالِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ فَإِنَّمَا تَأَوَّلُوا تَقْدِيرَ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ لِلْمَقَادِيرِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا تَلْحَقُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ الْمَالِ. وَمَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ دِرْهَمًا لَا يُقَالُ تَرَكَ خَيْرًا، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْعَادَةِ، وَكَانَ طَرِيقُ التَّقْدِيرِ فِيهَا عَلَى الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الرَّأْيِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْقَدْرَ الْيَسِيرَ لَا تَلْحَقُهُ هَذِهِ التسمية، وأن

<<  <  ج: ص:  >  >>