[مطلب: الملاح يقصر في السفينة إذا كان مسافرا]
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَلَّاحِ هَلْ يَقْصُرُ فِي السَّفِينَةِ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: "يَقْصُرُ إذَا كَانَ فِي سَفَرٍ حَتَّى يَصِيرَ إلَى قَرْيَتِهِ فَيُتِمَّ" وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا كَانَ فِيهَا أَهْلُهُ وَقَرَارُهُ يَقْصُرُ إذَا أَكْرَاهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى حَيْثُ أَكْرَاهَا, فَإِذَا انْتَهَى أَتَمَّ الصَّلَاةَ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إذَا كَانَتْ السَّفِينَةُ بَيْتَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ غَيْرَهَا فَهُوَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُقِيمِ يُتِمُّ".
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَوْنُ الْمَلَّاحِ مَالِكًا لِلسَّفِينَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ, كَالْجَمَّالِ مَالِكٌ لِلْجِمَالِ الَّتِي يَنْتَقِلُ بِهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ السَّفَرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ أَحْكَامِ الصَّوْمِ. وَشَرَطَ أَصْحَابُنَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا, وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: "ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا أَمْيَالٌ فَمَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْقَفْلِ" وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ, وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "يَوْمٌ تَامٌّ". وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: "سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا بِالْهَاشِمِيِّ". وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ", وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ".
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يُتِمُّ فِيهَا الصَّلَاةَ, فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ: "إذَا نَوَى إقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ, وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ قَصَرَ". وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "إذَا نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعٍ أَتَمَّ". وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: "إذَا نَوَى إقَامَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَتَمَّ وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ قَصَرَ". وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: "إنْ مَرَّ الْمُسَافِرُ بِمِصْرِهِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ مَاضٍ فِي سَفَرِهِ قَصَرَ فِيهِ الصَّلَاةَ مَا لَمْ يُقِمْ بِهِ عَشْرًا, وَإِنْ أَقَامَ بِهِ عَشْرًا أَوْ بِغَيْرِهِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وجابر: أن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ الرَّابِعَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَكَانَ مُقَامُهُ إلَى وَقْتِ خُرُوجِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِ الْأَرْبَعِ. وَأَيْضًا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: "إذَا قَدِمْت بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي نَفْسِك أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَ عَشَرَةَ لَيْلَةً فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ بِهَا, وَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْهَا "; وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: رَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "مَنْ أَجْمَعَ عَلَى أَرْبَعٍ وَهُوَ مُسَافِرٌ أَتَمَّ الصَّلَاةَ". قِيلَ لَهُ: رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "إذَا أَقَامَ الْمُسَافِرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ لَيْلَةً أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَمَا كَانَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَلْيَقْصُرْ", وَإِنْ جَعَلْنَا الرِّوَايَتَيْنِ مُتَعَارِضَتَيْنِ سَقَطَتَا وَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ شَيْءٌ, وَلَوْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا عَلَى ابْنِ عباس وابن عمر; وأيضا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute