للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مطلب: النهي عندنا يقتضي الفساد]

فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا: أَحَدُهُمَا: وُقُوعُ الْعُقْدَةِ مَنْهِيًّا عَنْهَا, وَالنَّهْيُ عِنْدَنَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُنِعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَالٍ. فَلَوْ أَبْقَيْنَا عَقْدَهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ كُنَّا مُثْبِتِينَ لِمَا نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَمْعِ, فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ الْعَقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْجَمْعُ. وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُ عَقْدًا عَلَى أُخْتَيْنِ وَلَمْ يَجُزْ أَيْضًا أَنْ يَبْقَى لَهُ عَقْدٌ عَلَى أُخْتَيْنِ وَإِنْ لَمْ تَكُونَا أُخْتَيْنِ فِي حَالِ الْعَقْدِ, كَمَنْ تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ فَاسْتَوَى حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ فِي نَفْيِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا, أَشْبَهَ نِكَاحَ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي اسْتِوَاءِ حَالِ الْبَقَاءِ وَالِابْتِدَاءِ فِيهِمَا. فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ الْعَقْدُ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي وُقُوعِهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ وَحَالِ الْإِسْلَامِ وَوَجَبَ التَّفْرِيقُ مَتَى طَرَأَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ, وَجَبَ مِثْلُهُ فِي نِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ وَأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ; وَكَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْبَقَاءِ وَالِابْتِدَاءِ فِيهِمَا كَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ, وَجَبَ الْحُكْمُ بِفَسَادِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَمَا قُلْنَا فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ.

وَاحْتَجَّ مَنْ خَيَّرَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِحَدِيثِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ, وَبِمَا رَوَى ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ حُمَيْضَةَ بْنِ الشَّمَرْدَلِ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: أَسْلَمْت وَعِنْدِي ثَمَانُ نِسْوَةٍ, فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ "أَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا" وَبِمَا رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ, أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُذْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا". فَأَمَّا حَدِيثُ فَيْرُوزَ فَإِنَّ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ وَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ; لِأَنَّهُ قَالَ: "أَيَّتَهمَا شِئْت" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَحَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ, فَكَانَ صَحِيحًا إلَى أَنْ طَرَأَ التَّحْرِيمُ, فَلَزِمَهُ اخْتِيَارُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَمُفَارَقَةُ سَائِرِهِنَّ, كَرَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا ثَلَاثًا فَيُقَالُ لَهُ: اخْتَرْ أَيَّتَهمَا شِئْت; لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ صَحِيحًا إلَى أَنْ طَرَأَ التَّحْرِيمُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ لَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِ الْعَقْدِ. قِيلَ لَهُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِعِلْمِهِ عَنْ مَسْأَلَتِهِ.

وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَشُكُّ أَهْلُ النَّقْلِ فِيهِ أَنَّ مَعْمَرًا١ أَخْطَأَ فِيهِ بِالْبَصْرَةِ, وَأَنَّ أَصْلَ هذا الحديث مقطوع من حديث


١ قوله: أن معمرا" هو معمر بن راشد البصري ثم اليماني, انتهى مختصرا من خلاصة تهذيب الكمال. "لمصححه".

<<  <  ج: ص:  >  >>