للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مطلب: في موضع الاستحلاف]

وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَقَتَادَةَ: اُسْتُحْلِفَا بَعْدَ الْعَصْرِ; وَإِنَّمَا اُسْتُحْلِفَا بَعْدَ الْعَصْرِ تَغْلِيظًا لِلْيَمِينِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَظَّمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: ٢٣٨] قِيلَ صَلَاةُ الْعَصْرِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ اسْتَحْلَفَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقَدْ رُوِيَ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ بِالِاسْتِحْلَافِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُعَظَّمَةِ. وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ" ; فَأَخْبَرَ أَنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا, وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الْمَوْسُومَةِ لِلْعِبَادَاتِ وَلِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ فِيهَا تَكُونُ الْمَعَاصِي فِيهَا أَعْظَمَ إثْمًا, أَلَا تَرَى أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِي الْكَعْبَةِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا مِنْهُ فِي غَيْرِهِ؟ وَلَيْسَتْ الْيَمِينُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَفِي الْمَسْجِدِ فِي الدَّعَاوَى بِوَاجِبَةٍ, وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّرْهِيبِ وَتَخْوِيفِ الْعِقَابِ. وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَسْتَحْلِفُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ; وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي ذَكَرْنَا, وَبِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَضْرَمِيِّ: "لَك يَمِينُهُ" قَالَ: إنَّهُ رِجْلٌ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي, قَالَ: "لَيْسَ لَك مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ" فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ, فَلَمَّا أَدْبَرَ لِيَحْلِفَ قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالٍ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ" وَبِحَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ, وَفِيهِ: فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ. فَقَالُوا: قَوْلُهُ: "مَنْ حَلَفَ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَيْمَانَ قَدْ كَانَتْ تَكُونُ عِنْدَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَسْنُونٌ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَجْلِسُ هُنَاكَ, فَلِذَلِكَ كَانَ يَقَعُ الِاسْتِحْلَافُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ, وَالْيَمِينُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ أَعْظَمُ مَأْثَمًا إذَا كَانَتْ كَاذِبَةً لِحُرْمَةِ الْمَوْضِعِ, فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ; وَالشَّافِعِيُّ لَا يَسْتَحْلِفُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ, وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ: "وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ أَخْضَرَ" فَقَدْ خَالَفَ الْخَبَرَ عَلَى أَصْلِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "انْطَلَقَ لِيَحْلِفَ" وَأَنَّهُ لَمَّا أَدْبَرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ, فَإِنَّهُ لَا دلالة فيه على أنه ذهب إلى

<<  <  ج: ص:  >  >>