للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي إبَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ اللِّعَانَ

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: "أَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ اللِّعَانِ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ". وَقَالَ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ: "أَيُّهُمَا نَكَلَ حُدَّ، إنْ نَكَلَ الرَّجُلُ حُدَّ لِلْقَذْفِ وَإِنْ نَكَلَتْ هِيَ حُدَّتْ لِلزِّنَا". وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ فِي الرَّجُلِ يُلَاعِنُ وَتَأْبَى الْمَرْأَةُ قَالَ: "تُحْبَسُ". وَعَنْ مَكْحُولٍ وَالضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ: "إذَا لَاعَنَ وَأَبَتْ أَنْ تُلَاعِنَ رُجِمَتْ".

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: ١٥] وَقَالَ: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ: "ائْتِنِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك" وَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَمَهُمَا; فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِتَرْكِ اللِّعَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ; وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلُ نفس بغير نَفْسِ"، فَنَفَى وُجُوبَ الْقَتْلَ إلَّا بِمَا ذُكِرَ، وَالنُّكُولُ عَنْ اللِّعَانِ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ رَجْمُهَا، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الرَّجْمُ إذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً لَمْ يَجِبْ الْجَلْدُ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّق بَيْنَهُمَا.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: "امْرِئٍ مُسْلِمٍ" إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ دُونَ الْمَرْأَةِ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمَرْأَةَ مُرَادَةٌ بِذَلِكَ وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لِلْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: ١٧٦] وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:٣٤] . وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ الدَّمَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالنُّكُولِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُدُودِ، فَكَانَ فِي اللِّعَانِ أَوْلَى أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَهُوَ يَعْنِي حَدَّ الزِّنَا، ثُمَّ قَالَ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} فَعَرَّفَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ هَذِهِ قِصَّةً وَاحِدَةً وَلَا حُكْمًا وَاحِدًا حَتَّى يَلْزَمَ فِيهِ مَا قُلْت; لِأَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ إنَّمَا هِيَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الزَّانِيَيْنِ ثُمَّ حُكْمِ الْقَاذِفِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ جَارِيًا عَلَى عُمُومِهِ إلَى أَنْ نُسِخَ عَنْ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ بِاللِّعَانِ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ الْعَذَابَ وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ حَدَّ الزِّنَا فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْعَذَابَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي غَيْرِهِ مَا يُوجِبُهُ أَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ فِي لِعَانِ الزَّوْجَيْنِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الزَّانِيَيْنِ; إذْ لَيْسَ يختص

<<  <  ج: ص:  >  >>