للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْحَسَنِ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ تَنَازُعٌ حَتَّى اضْطَرَبُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ رَجُلَانِ بَيْنَهُمَا حَقٌّ تَدَارَآ فِيهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لَآخُذَنَّهُ عَنْوَةً; لِكَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: بَيْنِي وَبَيْنَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعَا حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا: كَانَ قِتَالُهُمْ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُمْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ كَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالْعِصِيِّ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرَ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ عُمُومٌ فِي سَائِرِ ضُرُوبِ الْقِتَالِ، فَإِنْ فَاءَتْ إلَى الْحَقِّ بِالْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ لَمْ يُتَجَاوَزْ بِهِ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ تَفِئْ بِذَلِكَ قُوتِلَتْ بِالسَّيْفِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَغَيْرُ جَائِزٍ; لِأَحَدٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْقِتَالِ بِالْعِصِيِّ دُونَ السِّلَاحِ مَعَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْبَغْيِ وَتَرْكِ الرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ، وَذَلِكَ أَحَدُ ضُرُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَاكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ"، فَأَمَرَ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السِّلَاحِ وَمَا دُونَهُ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ إزَالَتِهِ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْكَنَ.

وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ الْحَشْوِ إلَى أَنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ وَمَا دُونَ السِّلَاحِ وَأَنَّهُمْ لَا يُقَاتَلُونَ بِالسَّيْفِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَيْنَا مِنْ سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وَقِتَالِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَقَاتَلُوا بِالْعِصِيِّ وَالنِّعَالِ، وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا; لِأَنَّ الْقَوْمَ تَقَاتَلُوا بِمَا دُونَ السِّلَاحِ، فَأَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِقِتَالِ الْبَاغِي مِنْهُمَا وَلَمْ يُخَصِّصْ قِتَالَنَا إيَّاهُ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ مَتَى ظَهَرَ لَنَا قِتَالٌ مِنْ فِئَةٍ عَلَى وَجْهِ الْبَغْيِ قَابَلْنَاهُ بِالسِّلَاحِ وَبِمَا دُونَهُ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْحَقِّ، وَلَيْسَ فِي نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى حَالِ قِتَالِ الْبَاغِي لَنَا بِغَيْرِ سِلَاحٍ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِقِتَالِنَا إيَّاهُمْ مَقْصُورًا عَلَى مَا دُونَ السِّلَاحِ مَعَ اقْتِضَاءِ عُمُومِ اللَّفْظِ لِلْقِتَالِ بِسِلَاحٍ وَغَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: "مِنْ قَاتَلَكُمْ بِالْعِصِيِّ فَقَاتِلُوهُ بِالسِّلَاحِ" لَمْ يَتَنَاقَضْ الْقَوْلُ بِهِ؟ فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ إيَّانَا بِقِتَالِهِمْ; إذْ كَانَ عُمُومُهُ يَقْتَضِي الْقِتَالَ بِسِلَاحٍ وَغَيْرِهِ، وَجَبَ أَنْ يُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ وَأَيْضًا قَاتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الفئة الباغية بالسيف

<<  <  ج: ص:  >  >>