تَطَوُّعًا; لِأَنَّهُ صَلَّاهَا حِينَ دَخَلَ ضُحَى وَلَمْ يَكُنْ وَقْتَ صَلَاةٍ. وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى جواز الجوار بمكة; لأن قوله: {وَالْعَاكِفِينَ} يَحْتَمِلُهُ إذَا كَانَ اسْمًا لِلُّبْثِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْمَجَازِ; عَلَى أَنَّ عَطَاءً وَغَيْرَهُ قَدْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْمُجَاوِرِينَ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ قَبْلَ الصَّلَاةُ لِمَا تَأَوَّلَهُ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي تَقْدِيمِ الطَّوَافِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ; لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُهُ، قِيلَ لَهُ: قَدْ اقْتَضَى اللَّفْظُ فِعْلَ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ جَمِيعًا، وَإِذَا ثَبَتَ طَوَافٌ مَعَ صَلَاةٍ فَالطَّوَافِ لَا مَحَالَةَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِي: اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَقْدِيمِهِ عَلَيْهَا.
فَإِنْ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فِي الْبَيْتِ وَكَمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الطَّوَافِ فِي جَوْفِ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى فِعْلِهِ خَارِجَ الْبَيْتِ كَذَلِكَ دَلَالَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الصَّلَاةِ إلَى الْبَيْتِ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِ قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} قَدْ اقْتَضَى فِعْلَ ذَلِكَ فِي الْبَيْتِ كَمَا دَلَّ عَلَى جَوَازِ فِعْلِ الِاعْتِكَافِ فِي الْبَيْتِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُ الطَّوَافُ فِي كَوْنِهِ مَفْعُولًا خَارِجَ الْبَيْتِ بِدَلِيلِ الِاتِّفَاقِ. وَلِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ إنَّمَا هُوَ بِأَنْ يَطُوفَ حَوَالَيْهِ خَارِجًا مِنْهُ; وَلَا يُسَمَّى طَائِفًا بِالْبَيْتِ مَنْ طَافَ فِي جَوْفِهِ; وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا أَمَرَنَا بِالطَّوَافِ بِهِ لَا بِالطَّوَافِ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: ٢٩] وَمَنْ صَلَّى دَاخِلَ الْبَيْتِ يَتَنَاوَلُهُ الْإِطْلَاقُ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّوَجُّهَ إلَيْهِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ لِلرُّكَّعِ وَالسُّجُودِ وَجْهٌ; إذْ كَانَ حَاضِرُو الْبَيْتِ وَالنَّاءُونَ عَنْهُ سَوَاءً فِي الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَطْهِيرَهُ إنَّمَا هُوَ لِحَاضِرِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ التَّوَجُّهُ إلَيْهِ دُونَ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِتَطْهِيرِ نَفْسِ الْبَيْتِ لِلرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَنْتَ مَتَى حَمَلْته عَلَى الصَّلَاةِ خَارِجًا كَانَ التَّطْهِيرُ لِمَا حَوْلَ الْبَيْتِ؟ وَأَيْضًا إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا، فَيَكُونَانِ جَمِيعًا مُرَادَيْنِ، فَيَجُوزُ فِي الْبَيْتِ وَخَارِجِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: ٢٩] كَذَلِكَ قَالَ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: ١٤٤] وَذَلِكَ يَقْتَضِي فِعْلَهَا خَارِجِ الْبَيْتِ فَيَكُونُ مُتَوَجِّهًا إلَى شَطْرِهِ، قِيلَ لَهُ: لَوْ حَمَلْت اللَّفْظَ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَعَلَى قَضِيَّتِك أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ; لِأَنَّهُ قَالَ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: ١٤٤] وَمَتَى كَانَ فِيهِ فَعَلَى قَوْلِك لَا يَكُونُ متوجها إليه.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute