للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْإِبَاحَةِ; وَأَيْضًا لَوْ تَسَاوَيَا لَكَانَ الْحَظْرُ أُولَى لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ; وَأَمَّا تِلَاوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ عِنْدَ إبَاحَةِ الْمُتْعَةِ, وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: ٨٧] فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ الِاسْتِخْصَاءِ وَتَحْرِيمَ النِّكَاحِ الْمُبَاحِ, وَيَحْتَمِلُ الْمُتْعَةَ فِي حَالِ مَا كَانَتْ مُبَاحَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّه أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ; وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي وَقْتٍ, فَلَوْ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ بَاقِيَةً لَوَرَدَ النَّقْلُ بِهَا مُسْتَفِيضًا مُتَوَاتِرًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَعَرَفَتْهَا الْكَافَّةُ كَمَا عَرَفَتْهَا بَدِيًّا وَلَمَا اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى تَحْرِيمِهَا لَوْ كَانَتْ الْإِبَاحَةُ بَاقِيَةً, فَلَمَّا وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ مُنْكَرِينَ لِإِبَاحَتِهَا مُوجِبِينَ لَحَظْرِهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بَدِيًّا بِإِبَاحَتِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَظْرِهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي إبَاحَتِهِ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَلْوَاهُمْ بِالْمُتْعَةِ لَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً كَبَلْوَاهُمْ بِالنِّكَاحِ فَالْوَاجِبُ إذًا أَنْ يَكُونَ وُرُودُ النَّقْلِ فِي بَقَاءِ إبَاحَتِهَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ. وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْهُ تَجْرِيدُ الْقَوْلِ فِي إبَاحَةِ الْمُتْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ حِينَ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُهَا بِتَوَاتُرِ الْأَخْبَارِ مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ; وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَإِبَاحَتِهِ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ, فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ وَتَوَاتَرَتْ عِنْدَهُ الْأَخْبَارُ فِيهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ, فَكَذَلِكَ كَانَ سَبِيلُهُ فِي الْمُتْعَةِ.

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ عَرَفَتْ نَسْخَ إبَاحَةِ الْمُتْعَةِ, مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا" وَقَالَ فِي خَبَرٍ آخَرَ: "لَوْ تَقَدَّمْت فِيهَا لَرَجَمْت", فَلَمْ يُنْكِرْ هَذَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ, لَا سِيَّمَا فِي شَيْءٍ قَدْ عَلِمُوا إبَاحَتَهُ وَأَخْبَارَهُ بِأَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا بَقَاءَ إبَاحَتِهَا فَاتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى حَظْرِهَا, وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لِأَمْرٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيَانًا, وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ; فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ وَإِلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ الْإِسْلَامِ; لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ إبَاحَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتْعَةِ ثُمَّ قَالَ هِيَ مَحْظُورَةٌ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ لَهَا فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمِلَّةِ. فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا حَظْرَهَا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرُوهُ, وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ عُمَرُ مُنْكَرًا وَلَمْ يَكُنْ النَّسْخُ عِنْدَهُمْ ثَابِتًا لَمَا جَازَ أَنْ يُقَارُّوهُ عَلَى تَرْكِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ; وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى نَسْخِ الْمُتْعَةِ; إذْ غَيْرُ جَائِزٍ حَظْرُ مَا أَبَاحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ, أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>