جَازَ, فَلَا يَخْلُو بَعْدَ الْإِقْبَاضِ مِنْ أَنْ تَكُونَ هِبَةً مُسْتَقْبَلَةً عَلَى مَا قَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ أَوْ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ لَاحِقَةً بِالْعَقْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا, وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ هِبَةً مُسْتَقْبَلَةً; لِأَنَّهُمَا لَمْ يَدْخُلَا فِيهَا عَلَى أَنَّهَا هِبَةٌ وَإِنَّمَا أَوْجَبَاهَا عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ الْبُضْعِ لَاحِقَةٌ بِالْعَقْدِ, ولَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُلْزِمَهُمَا عَقْدًا لَمْ يَعْقِدَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١] وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ", فَإِذَا عَقَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا عَقْدًا لَمْ يَجُزْ لَنَا إلْزَامُهُمَا عَقْدًا غَيْرَهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَالسُّنَّةِ; إذْ كَانَتْ الْآيَةُ إنَّمَا اقْتَضَتْ إيجَابَ الْوَفَاءِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ لَا بِغَيْرِهِ; لِأَنَّ إلْزَامَهُ عَقْدًا غَيْرَهُ لَا يَكُونُ وَفَاءً بِالْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ, وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ" يَقْتَضِي الْوَفَاءَ بِالشَّرْطِ, وَلَيْسَ فِي إسْقَاطِ الشَّرْطِ وَإِلْزَامِهِمَا مَعْنًى غَيْرَهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ; فَدَلَّتْ الْآيَةُ وَالسُّنَّةُ مَعًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُخَالِفِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اقْتِضَاءُ عُمُومِهِمَا لِإِيجَابِ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ وَالشَّرْطِ, وَالْآخَرُ: مَا انْتَظَمْنَا مِنْ امْتِنَاعِ إلْزَامِ عَقْدٍ أَوْ شَرْطٍ غَيْرِ مَا عَقَدَاهُ; وَلَمَّا بَطَلَ إلْزَامُهُمَا الْهِبَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَصَحَّ التَّمْلِيكُ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مُلِكَتْ مِنْ جِهَةِ الزِّيَادَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْعَلَهَا هِبَةً, أَنَّهَا مَتَى كَانَتْ زِيَادَةً كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْمَرْأَةِ بِالْقَبْضِ; لِأَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ الْبُضْعِ, وَإِذَا كَانَتْ هِبَةً لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً عَلَيْهَا, وَإِذَا كَانَتْ زِيَادَةً سَقَطَتْ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ, وَإِذَا كَانَتْ هِبَةً لَمْ يُؤَثِّرْ الطَّلَاقُ فِيهَا, وَإِذَا دَخَلَا فِيهَا عَلَى عَقْدٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ لَمْ يَجُزْ لَنَا إلْزَامُهُمَا. عَقْدًا لَا ضَمَانَ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا إذَا تَعَاقَدَا عَقْدَ بَيْعٍ لَمْ يَجُزْ إلْزَامُهُمَا عَقْدَ هِبَةٍ وَلَوْ تَعَاقَدَا عَقْدَ إقَالَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُمَا عَقْدُ بَيْعٍ مُسْتَقْبَلٍ؟ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْهِبَةِ بِعَقْدِ الزِّيَادَةِ, وَإِذَا لَمْ تَكُنْ هِبَةً وَقَدْ صَحَّ التَّمْلِيكُ كَانَتْ زِيَادَةً لَاحِقَةً بِالْعَقْدِ بَدَلًا مِنْ الْبُضْعِ مَعَ التَّسْمِيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي جَعْلِهِ إيَّاهَا هِبَةً, ثُمَّ قَوْلِهِ: "إنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ إلَيْهِ نِصْفُ الزِّيَادَةِ" فَإِنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ; لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ هِبَةً فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَا بِالْمَهْرِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلطَّلَاقِ فِي رُجُوعِ شَيْءٍ مِنْهَا إلَيْهِ, وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ فَغَيْرُ جَائِزٍ بُطْلَانُهَا بِالْمَوْتِ. وَإِنَّمَا قَالَ أَصْحَابُنَا: "إنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ كُلُّهَا" مِنْ قِبَلِ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الْعَقْدِ وَإِنَّمَا كَانَتْ مُلْحَقَةً بِهِ, وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهَا مَوْقُوفًا عَلَى سَلَامَةِ الْعَقْدِ أَوْ الدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا تَلْحَقُ بِهِ عَلَى شَرْطِ بَقَاءِ الْعَقْدِ وَأَنَّهُ مَتَى بَطَلَ الْعَقْدُ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ؟ فكذلك الزيادة في المهر.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute