"مَعْنَاهُ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ". وَقَالَ عِكْرِمَةُ: "هُوَ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَمُحَرَّمٌ وَرَجَبٌ". وَجَائِزٌ أَنْ يكون المراد بقوله: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} هَذِهِ الْأَشْهُرُ كُلُّهَا, وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ وَاحِدًا مِنْهَا. وَبَقِيَّةُ الشُّهُورِ مَعْلُومٌ حُكْمُهَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ إذْ كَانَ جَمِيعُهَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ مِنْهَا, فَإِذَا بَيَّنَ حُكْمًا وَاحِدًا مِنْهَا فَقَدْ دَلَّ عَلَى حُكْمِ الْجَمِيعِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} أَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى كُلِّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ الذَّبَائِحِ وَالصَّدَقَاتِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُبَكِّرُ إلَى الْجُمُعَةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً, ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً, ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي شَاةً, ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي دَجَاجَةً, ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَيْضَةً" , فَسَمَّى الدَّجَاجَةَ وَالْبَيْضَةَ هَدْيًا, وَأَرَادَ بِهِ الصَّدَقَةَ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فَيَمَنِ قَالَ: "ثَوْبِي هَذَا هَدْيٌ" أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ. إلَّا أَنَّ الْإِطْلَاقَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إلَى الْحَرَمِ وَذَبْحِهِ فِيهِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: ١٩٦] وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَدْنَاهُ شَاةٌ; وَقَالَ تَعَالَى: {مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: ٩٥] , وَقَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: ١٩٦] وَأَقَلُّهُ شَاةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ; فَاسْمُ الْهَدْيِ إذَا أُطْلِقَ يَتَنَاوَلُ ذَبْحَ أَحَدِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ في الحرم.
وقوله: {وَلا الْهَدْيَ} أَرَادَ بِهِ النَّهْيَ عَنْ إحْلَالِ الْهَدْيِ الَّذِي قَدْ جُعِلَ لَلذَّبْحِ فِي الْحَرَمِ, وَإِحْلَالِ اسْتِبَاحَتِهِ لِغَيْرِ مَا سِيقَ إلَيْهِ مِنْ الْقُرْبَةِ; وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِ الِانْتِفَاعِ بِالْهَدْيِ إذَا سَاقَهُ صَاحِبُهُ إلَى الْبَيْتِ أَوْ أَوْجَبَهُ هَدْيًا مِنْ جِهَةِ نَذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ, وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى حَظْرِ الْأَكْلِ مِنْ الْهَدَايَا نَذْرًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا مِنْ إحْصَارٍ أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ. وَظَاهِرُهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لَشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ, إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عِنْدَنَا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْهُ.
وَأَمَّا قوله عز وجل: {وَلا الْقَلائِدَ} فَإِنَّ مَعْنَاهُ: لَا تُحِلُّوا الْقَلَائِدَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ الْقَلَائِدِ وُجُوهٌ عَنْ السَّلَفِ, فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَرَادَ الْهَدْيَ الْمُقَلَّدَ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْهَدْيِ مَا يُقَلَّدُ وَمِنْهُ مَا لَا يُقَلَّدُ, وَاَلَّذِي يُقَلَّدُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ, وَاَلَّذِي لَا يُقَلَّدُ الْغَنَمُ, فَحَظَرَ تَعَالَى إحْلَالَ الْهَدْيِ مُقَلَّدًا وَغَيْرَ مُقَلَّدٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "كَانُوا إذَا أَحْرَمُوا يُقَلِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَالْبَهَائِمَ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ, فَكَانَ ذَلِكَ أَمْنًا لَهُمْ, فَحَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى اسْتِبَاحَةَ مَا هَذَا وَصْفُهُ وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ فِي النَّاسِ وَفِي الْبَهَائِمِ غَيْرِ الْهَدَايَا". وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ قَتَادَةَ فِي تَقْلِيدِ النَّاسِ لِحَاءَ شَجَرِ الْحَرَمِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "أَرَادَ بِهِ قَلَائِدَ الْهَدْيِ بِأَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهَا وَلَا يَنْتَفِعُوا بِهَا". وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "يُقَلَّدُ الْهَدْيُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute