نَفْسًا بِنَفْسٍ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ, وَعَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ مَعْنًى يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَتْلُ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} قَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا تَعْظِيمُ الْوِزْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَأْثَمِ كُلِّ قَاتِلٍ مِنْ النَّاسِ لِأَنَّهُ سَنَّ الْقَتْلَ وَسَهَّلَهُ لِغَيْرِهِ فَكَانَ كَالْمُشَارِكِ لَهُ فِيهِ; وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ قَاتِلٍ ظُلْمًا إلَّا وَعَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنْ الْإِثْمِ لِأَنَّهُ سَنَّ الْقَتْلَ" وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وَالثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعُونَةَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ حَتَّى يُقِيدُوهُ مِنْهُ, فَيَكُونُ كُلُّهُمْ خُصُومَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يُقَادَ مِنْهُ, كَأَنَّهُ قَتَلَ أَوْلِيَاءَهُمْ جَمِيعًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ إذَا قَتَلَتْ وَاحِدًا; إذْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا.
وقَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} قَالَ مُجَاهِدٌ: "مَنْ أَحْيَاهَا نَجَّاهَا مِنْ الْهَلَاكِ". وَقَالَ الْحَسَنُ: "إذَا عَفَا عَنْ دَمِهَا وَقَدْ وَجَبَ الْقَوَدُ". وَقَالَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: "زَجَرَ عَنْ قَتْلِهَا بِمَا فِيهِ حَيَاتُهَا". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِإِحْيَائِهَا مَعُونَةَ الْوَلِيِّ عَلَى قَتْلِ الْقَاتِلِ وَاسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِنْهُ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِإِحْيَائِهَا أَنْ يُقْتَلَ الْقَاصِدُ لِقَتْلِ غَيْرِهِ ظُلْمًا فَيَكُونَ مُجِيبًا لِهَذَا الْمَقْصُودِ بِالْقَتْلِ وَيَكُونَ كَمَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا; لِأَنَّ ذَلِكَ يُرْدِعُ الْقَاصِدِينَ إلَى قَتْلِ غَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِهِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ حَيَاةٌ لِسَائِرِ النَّاسِ مِنْ الْقَاصِدِينَ لِلْقَتْلِ وَالْمَقْصُودِينَ بِهِ. فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ضُرُوبًا مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى الْأَحْكَامِ, مِنْهَا: دَلَالَتُهَا عَلَى وُرُودِ الْأَحْكَامِ مُضَمَّنَةً بِمَعَانٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِوُجُودِهَا, وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ. وَالثَّانِي إبَاحَةُ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ. وَالرَّابِعُ: مَنْ قَصَدَ قَتْلَ مُسْلِمٍ ظُلْمًا فَهُوَ مُسْتَحِقُّ الْقَتْلِ; لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} كَمَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ إذَا قَصَدَ قَتْلَ غَيْرِهِ; إذْ هُوَ مَقْتُولٌ بِنَفْسِ إرَادَةِ إتْلَافِهَا. وَالْخَامِسُ: الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْقَتْلُ. وَالسَّادِسُ احْتِمَالُ قَوْله تَعَالَى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} أَنَّ عَلَيْهِ مَأْثَمَ كُلِّ قَاتِلٍ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ سَنَّ الْقَتْلَ وَسَهَّلَهُ لِغَيْرِهِ. وَالسَّابِعُ: أَنَّ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعُونَةَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ حَتَّى يُقِيدُوهُ مِنْهُ. وَالثَّامِنُ: دَلَالَتُهَا عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا. وَالتَّاسِعُ: دَلَالَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} عَلَى مَعُونَةِ الْوَلِيِّ عَلَى قَتْلِ الْقَاتِلِ. وَالْعَاشِرُ: دَلَالَتُهُ أَيْضًا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ غَيْرِهِ ظُلْمًا; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute