للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الَّذِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ; رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الدِّيَةِ بَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ, وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ كَانَ لَهُمْ شَرَفٌ يُدَوْنَ دِيَةً كَامِلَةً, وَأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ يُودَوْنَ نِصْفَ الدِّيَةِ; فَتَحَاكَمُوا فِي ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِيهِمْ, فَحَمَلَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَقِّ فِي ذَلِكَ فَجَعَلَ الدِّيَةَ سَوَاءً. وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمَّةٌ قَطُّ, وَقَدْ أَجْلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ, وَلَوْ كَانَ لَهُمْ ذِمَّةٌ لَمَا أَجْلَاهُمْ وَلَا قَتَلَهُمْ, وَإِنَّمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ وَهُدْنَةٌ فَنَقَضُوهَا. فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ نَزَلَتْ فِيهِمْ, فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا بَاقِيًا فِي أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ, وَحُكْمُ الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي وُجُوبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ثَابِتًا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَسْخٌ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ سَائِغٌ لَوْلَا مَا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ نَسْخِ التَّخْيِيرِ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى وَعَنْ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ حِينَ تَحَاكَمُوا إلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ, وَإِنَّمَا تَحَاكَمُوا إلَيْهِ طَلَبًا لِلرُّخْصَةِ وَزَوَالِ الرَّجْمِ, فَصَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَيْتِ مِدْرَاسِهِمْ وَوَقَفَهُمْ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ وَعَلَى كَذِبِهِمْ وَتَحْرِيفِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ, ثُمَّ رَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ إنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أَمَاتُوهَا".

وَقَالَ أَصْحَابُنَا أَهْلُ الذِّمَّةِ مَحْمُولُونَ فِي الْبُيُوعِ وَالْمَوَارِيثِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ كَالْمُسْلِمِينَ, إلَّا فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ, فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُمْ مُقَرُّونَ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَالًا لَهُمْ, وَلَوْ لَمْ يَجُزْ مُبَايَعَتُهُمْ وَتَصَرُّفُهُمْ فِيهَا وَالِانْتِفَاعُ بِهَا لَخَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالًا لَهُمْ وَلَمَا وَجَبَ عَلَى مُسْتَهْلِكِهَا عَلَيْهِمْ ضَمَانٌ". وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهَا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْعُشُورِ, فَكَتَبَ إلَيْهِمْ عُمَرُ" أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا" فَهَذَانِ مَالٌ لَهُمْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِمَا, وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَحْكَامِنَا لِقَوْلِهِ: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ: "إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا وَإِمَّا أَنْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" فَجَعَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَظْرِ الرِّبَا وَمَنَعَهُمْ مِنْهُ كَالْمُسْلِمِينَ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: ١٦١] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ الرِّبَا وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ, كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: ٢٩] فَسَوَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَنْعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>