للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وَاَلَّذِي ثَبَتَ نَسْخُهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ التَّخْيِيرُ, فَأَمَّا شَرْطُ الْمَجِيءِ مِنْهُمْ فَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى نَسْخِهِ, فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الشَّرْطِ بَاقِيًا وَالتَّخْيِيرُ مَنْسُوخًا, فَيَكُونَ تَقْدِيرُهُ مَعَ الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وَإِنَّمَا قَالَ: "إنَّهُمْ يُحْمَلُونَ عَلَى أَحْكَامِنَا إذَا رَضُوا بِهَا إلَّا فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ" مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا اعْتِرَاضٌ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّرَاضِي مِنْهُمْ بِأَحْكَامِنَا, فَمَتَى تَرَاضَوْا بِهَا وَارْتَفَعُوا إلَيْنَا فَإِنَّمَا الْوَاجِبُ إجْرَاؤُهُمْ عَلَى أَحْكَامِنَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ, وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنَّمَا تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ لِأَنَّ امْرَأَةً تَحْتَ زَوْجٍ لَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ لَمْ يَمْنَعْ مَا وَجَبَ مِنْ الْعِدَّةِ بَقَاءَ الْحُكْمِ, فَثَبَتَ أَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ; فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ غَيْرُ مُؤَاخَذِينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ, فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ عِدَّةٌ وَاجِبَةٌ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ, فَجَازَ نِكَاحُهَا الثَّانِي. وَلَيْسَ كَذَلِكَ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ; إذْ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ فِي بَابِ بُطْلَانِهِ, وَأَمَّا النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَإِنَّ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وُجُودُ الشُّهُودِ فِي حَالِ الْعَقْدِ, وَلَا يُحْتَاجُ فِي بَقَائِهِ إلَى اسْتِصْحَابِ الشُّهُودِ; لِأَنَّ الشُّهُودَ لَوْ ارْتَدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ مَاتُوا لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ; فَإِذَا كَانَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى الشُّهُودِ لِلِابْتِدَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمْنَعَ الْبَقَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَجْلِ عَدَمِ الشُّهُودِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ, فَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُهُ, وَالِاجْتِهَادُ سَائِغٌ فِي جَوَازِهِ, وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا عَقَدُوهُ مَا لَمْ يَخْتَصِمُوا فِيهِ, فَغَيْرُ جَائِزٍ فَسْخُهُ إذَا عَقَدُوهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ; إذْ كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا جَائِزًا فِي وَقْتِ وُقُوعِهِ, لَوْ أَمْضَاهُ حَاكِمٌ مَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَازَ وَلَمْ يَجُزْ بَعْدَ ذَلِكَ فَسْخُهُ وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ تَرَاضِيَهُمَا جَمِيعًا بِأَحْكَامِنَا مِنْ قِبَلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} فَشَرَطَ مَجِيئَهُمْ, فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِمَجِيءِ الْآخَرِ.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِأَحْكَامِنَا فَقَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ أَسْلَمَ فَيُحْمَلُ الْآخَرُ مَعَهُ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ, لِأَنَّ رِضَاهُ بِأَحْكَامِنَا لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إيجَابًا, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ الرِّضَا قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إيَّاهُ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ يُمْكِنُهُ الرِّضَا بِأَحْكَامِنَا؟ وَأَيْضًا إذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ إلَّا بَعْدَ الرِّضَا بِحُكْمِنَا فَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ مُبْقًى عَلَى حُكْمِهِ لَا يَجُوزُ إلْزَامُهُ حُكْمًا لِأَجْلِ رِضَا غَيْرِهِ. وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إلَى أَنَّ رِضَا أَحَدِهِمَا يُلْزِمُ الْآخَرَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ. وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إلَى ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} .

قَوْله تَعَالَى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} يَعْنِي: اللَّهُ أَعْلَمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>