للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَلْزَمَنَا حِفْظَهَا, وَذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ الَّتِي تُمْكِنُ مُرَاعَاتُهَا وَحِفْظُهَا لِأَدَاءِ كَفَّارَتِهَا, وَالْيَمِينُ عَلَى الْمَاضِي لَا يَقَعُ فِيهَا حِنْثٌ فَيَنْتَظِمُهَا اللَّفْظُ, أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ دُخُولُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا فَتَقُولَ: "كَانَ أَمْسِ الْجُمُعَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ" وَ" وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ أَمْسِ الْجُمُعَةَ" إذَا كَانَ الْحِنْثُ وُجُودَ مَعْنَى بَعْدَ الْيَمِينِ بِخِلَافِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَقْدِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: "وَاَللَّهِ" كَانَ ذَلِكَ قَسَمًا وَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ بِوُجُودِ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حِنْثٌ.

وقد قرئ قوله تعالى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} على ثلاثة أوجه١: {عَقَّدْتُمُ} بِالتَّشْدِيدِ قَرَأَهُ جَمَاعَةٌ, وَ" عَقَدْتُمْ" خَفِيفَةً, وَ" عاقدتم" فقوله تعالى: {عَقَّدْتُمُ} بِالتَّشْدِيدِ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ: لَا يَحْتَمِلُ إلَّا عَقْدَ قَوْلٍ, وَ" عَقَدْتُمْ" بِالتَّخْفِيفِ يَحْتَمِلُ عَقْدَ الْقَلْبِ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ وَالْقَصْدُ إلَى الْقَوْلِ, وَيَحْتَمِلُ عَقْدَ الْيَمِينِ قَوْلًا; وَمَتَى احْتَمَلَ إحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ الْقَوْلَ وَاعْتِقَادَ الْقَلْبِ وَلَمْ يَحْتَمِلْ الْأُخْرَى إلَّا عَقْدَ الْيَمِينِ قَوْلًا, وَجَبَ حَمْلُ مَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا, فَيَحْصُلُ الْمَعْنَى مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ عَقْدُ الْيَمِينِ قَوْلًا, وَيَكُونُ حُكْمُ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْأَيْمَانِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مَعْقُودَةً وَلَا تَجِبُ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْقُودَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ مَاضٍ وَالْخَبَرُ عَنْ الْمَاضِي لَيْسَ بِعَقْدٍ سَوَاءٌ كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا كَانَ قَوْله تَعَالَى: "عَقَدْتُمْ" بِالتَّخْفِيفِ يَحْتَمِلُ اعْتِقَادَ الْقَلْبِ وَيَحْتَمِلُ عَقْدَ الْيَمِينِ, فَهَلَّا حَمَلْته عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ; إذْ لَيْسَا مُتَنَافِيَيْنِ وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} بِالتَّشْدِيدِ مَحْمُولٌ عَلَى عَقْدِ الْيَمِينِ فَلَا يَنْفِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي الْقَصْدِ إلَى الْيَمِينِ فَيَكُونَ عُمُومًا فِي سَائِرِ الْأَيْمَانِ قِيلَ لَهُ: لَوْ سَلِمَ لَك مَا ادَّعَيْت مِنْ الِاحْتِمَالِ لَمَا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا ذَكَرْت وَلَكَانَتْ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ مَانِعَةً مَنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا وَصَفْت وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْقَصْدَ إلَى الْيَمِينِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَأَنَّ حُكْمَ إيجَابِهَا مُتَعَلِّقٌ بِاللَّفْظِ دُونَ الْقَصْدِ فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ, فَبَطَلَ بِذَلِكَ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ اللَّفْظَ عَلَى قَصْدِ الْقَلْبِ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ. وَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِرَاءَتَيْنِ جَمِيعًا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْلُهُ: {عَقَّدْتُمُ} بِالتَّشْدِيدِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ, وَالْمُؤَاخَذَةُ تَلْزَمُ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ, فَمَا وَجْهُ اللَّفْظِ الْمُقْتَضِي لِلتَّكْرَارِ مَعَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي وُجُودِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ


١ قوله: "على الثلاثة أوجه" قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم "عقدتم" بتخفيف القاف دون ألف بين العين والقاف, وابن ذكوان عن عامر: "عاقدتم" على وزن فاعلتم, والباقون: "عقدتم" بتشديد القاف. كذا في حاشية شيخ زاده على البيضاوي. "لمصححه".

<<  <  ج: ص:  >  >>